الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****
1 - الحكمة من مشروعيّة العيدين: أنّ كلّ قوم لهم يوم يتجمّلون فيه ويخرجون من بيوتهم بزينتهم. فقد ورد عن أنس - رضي الله عنه - أنّه قال: «كان لأهل الجاهليّة يومان في كلّ سنة يلعبون فيهما، فلمّا قدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة قال: كان لكم يومان تلعبون فيهما وقد أبدلكم اللّه بهما خيراً منهما: يوم الفطر ويوم الأضحى».
2 - صلاة العيدين واجبة على القول الصّحيح المفتى به عند الحنفيّة - والمراد من الواجب عند الحنفيّة: أنّه منزلة بين الفرض والسّنّة - ودليل ذلك: مواظبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم عليها من دون تركها ولو مرّةً، وأنّه لا يصلّي التّطوّع بجماعة - ما خلا قيام رمضان وكسوف الشّمس وصلاة العيدين فإنّها تؤدّى بجماعة، فلو كانت سنّةً ولم تكن واجبةً لاستثناها الشّارع كما استثنى التّراويح وصلاة الخسوف. أمّا الشّافعيّة والمالكيّة: فقد ذهبوا إلى القول بأنّها سنّة مؤكّدة. ودليلهم على ذلك: «قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصّحيح للأعرابيّ - وكان قد ذكر له الرّسول صلى الله عليه وسلم الصّلوات الخمس فقال له: هل عليّ غيرهنّ؟ قال لا، إلاّ أن تطوّع». قالوا: ولأنّها صلاة ذات ركوع وسجود لم يشرع لها أذان فلم تجب بالشّرع، كصلاة الضّحى. وذهب الحنابلة إلى القول بأنّها فرض كفاية ؛ لقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}، ولمداومة الرّسول صلى الله عليه وسلم على فعلها.
3 - شروط وجوب صلاة العيدين عند الحنفيّة: هي بعينها شروط وجوب صلاة الجمعة. فيشترط لوجوبها. أ - الإمام ب - المصر. ج - الجماعة. د - الوقت. هـ - الذّكورة. و - الحرّيّة. ز - صحّة البدن. ح - الإقامة. إلاّ الخطبة، فإنّها سنّة بعد الصّلاة. قال الكاسانيّ في بدائع الصّنائع - وهو يقرّر أدلّة هذه الشّروط -: أمّا الإمام فشرط عندنا لما ذكرنا في صلاة الجمعة، وكذا المصر لما روينا عن عليّ - رضي الله عنه - أنّه قال: لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلاّ في مصر جامع. ولم يرد بذلك نفس الفطر ونفس الأضحى ونفس التّشريق ؛ لأنّ ذلك ممّا يوجد في كلّ موضع، بل المراد من لفظ الفطر والأضحى صلاة العيدين ؛ ولأنّها ما ثبتت بالتّوارث من الصّدر الأوّل إلاّ في الأمصار. والجماعة شرط لأنّها ما أدّيت إلاّ بجماعة، والوقت شرط فإنّها لا تؤدّى إلاّ في وقت مخصوص، به جرى التّوارث وكذا الذّكورة والعقل والبلوغ والحرّيّة وصحّة البدن، والإقامة من شروط وجوبها كما هي من شروط وجوب الجمعة ؛ لما ذكرنا في صلاة الجمعة، ولأنّ تخلّف شرط من هذه الشّروط يؤثّر في إسقاط الفرض فلأن تؤثّر في إسقاط الواجب أولى. وأمّا الحنابلة - وصلاة العيدين عندهم فرض كفاية كما سبق بيانه - فإنّما شرطوا لفرضيّتها: الاستيطان، والعدد المشترط للجمعة. والمالكيّة - وهم من القائلين بأنّ صلاة العيدين سنّة مؤكّدة - شرطوا لذلك، أي لتأكيد سنّيّتها: تكامل شروط وجوب الجمعة، وأن لا يكون المصلّي متلبّساً بحجّ. فإذا فقد أحد الشّروط نظر: فإن كان المفقود هو عدم التّلبّس بالحجّ فصلاة العيد غير مطلوبة بأيّ وجه من وجوه الطّلب، وإن كان المفقود هو أحد شروط وجوب الجمعة، كالمرأة والمسافر، فهي في حقّهم مستحبّة وليست بسنّة مؤكّدة. قال الصّفتيّ: وهي سنّة في حقّ من يؤمر بالجمعة وجوباً إلاّ الحاجّ فلا تسنّ له ولا تندب، وأمّا المرأة والصّبيّ والمسافر فتستحبّ في حقّهم. وذهب الشّافعيّة إلى أنّها سنّة مؤكّدة في حقّ كلّ مكلّف ذكراً كان أو أنثى، مقيماً أو مسافراً، حرّاً أو عبداً، ولم يشترطوا لسنّيّتها شرطاً آخر غير التّكليف. وقالوا باشتراط عدم التّلبّس بالحجّ لأدائها جماعةً، أي فالحاجّ تسنّ له صلاة العيد منفرداً لا جماعةً.
4 - كلّ ما يعتبر شرطاً في صحّة صلاة الجمعة، فهو شرط في صحّة صلاة العيدين أيضاً، ما عدا الخطبة فهي هنا ليست شرطاً في صحّة العيدين وإنّما هي سنّة. ويستثنى - أيضاً - شرط عدم التّعدّد " راجع صلاة الجمعة " فلا يشترط ذلك لصلاة العيد، قال الحصكفيّ: وتؤدّى بمصر واحد في مواضع كثيرة اتّفاقاً، وقال ابن عابدين: مقرّراً هذا الكلام: والخلاف إنّما هو في الجمعة، فيشترط لصحّتها: أ - الإمام، ب - والمصر، ج - والجماعة، د - والوقت. وقد مرّ أنّها شروط للوجوب أيضاً. هذا عند الحنفيّة، أمّا الحنابلة فقد اشترطوا الوقت والجماعة. ولم يشترط المالكيّة والشّافعيّة لصحّة صلاة العيدين شيئاً من هذه الشّروط إلاّ الوقت. أمّا الشّروط الّتي هي قدر مشترك في صحّة الصّلوات المختلفة من طهارة واستقبال قبلة... إلخ فليس فيها من خلاف. ولمعرفتها (ر: صلاة).
5 - ذهب المالكيّة، والشّافعيّة، والحنابلة إلى كراهة خروج الشّابّات وذوات الجمال لصلاة العيدين لما في ذلك من خوف الفتنة، ولكنّهم استحبّوا في المقابل خروج غير ذوات الهيئات منهنّ واشتراكهنّ مع الرّجال في الصّلاة. وذلك للحديث المتّفق عليه عن أمّ عطيّة: «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يخرج العواتق وذوات الخدور والحيّض في العيد، فأمّا الحيّض فكنّ يعتزلن المصلّى ويشهدن الخير ودعوة المسلمين». ولكن ينبغي أن يخرجن في ثياب لا تلفت النّظر دون تطيّب ولا تبرّج. ويختلف الحكم عند الحنفيّة في إباحة خروج النّساء إلى صلاة العيدين بين كون المرأة شابّةً أو عجوزاً. أمّا الشّابّات من النّساء وذوات الجمال منهنّ، فلا يرخّص لهنّ في الخروج إلى صلاة العيد ولا غيرها كصلاة الجمعة ونقل الكاسانيّ إجماع أئمّة المذهب الحنفيّ عليه، وذلك لقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}. وأمّا العجائز فلا خلاف أنّه يرخّص لهنّ الخروج للعيد وغيره من الصّلوات. غير أنّ الأفضل على كلّ حال أن تصلّي المرأة في بيتها. واختلفت الرّواية عن أبي حنيفة: هل تخرج المرأة للصّلاة أم لتكثير سواد المسلمين؟.
6 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - إلى أنّ وقت صلاة العيدين يبتدئ عند ارتفاع الشّمس قدر رمح بحسب رؤية العين المجرّدة - وهو الوقت الّذي تحلّ فيه النّافلة - ويمتدّ وقتها إلى ابتداء الزّوال. وقال الشّافعيّة: إنّ وقتها ما بين طلوع الشّمس وزوالها، ودليلهم على أنّ وقتها يبدأ بطلوع الشّمس أنّها صلاة ذات سبب فلا تراعى فيها الأوقات الّتي لا تجوز فيها الصّلاة. أمّا الوقت المفضّل لها، فهو عند ارتفاع الشّمس قدر رمح، إلاّ أنّه يستحبّ عدم تأخيرها عن هذا الوقت بالنّسبة لعيد الأضحى، وذلك كي يفرغ المسلمون بعدها لذبح أضاحيهم، ويستحبّ تأخيرها قليلاً عن هذا الوقت بالنّسبة لعيد الفطر، وذلك انتظاراً لمن انشغل في صبحه بإخراج زكاة الفطر. وهذا محلّ اتّفاق عند سائر الأئمّة، ودليلهم على ما ذهبوا إليه من التّفريق بين صلاتي الفطر والأضحى: «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كتب إلى بعض الصّحابة: أن يقدّم صلاة الأضحى ويؤخّر صلاة الفطر».
لفوات صلاة العيد عن وقتها ثلاث صور: 7 - الصّورة الأولى: أن تؤدّى صلاة العيد جماعةً في وقتها من اليوم الأوّل ولكنّها فاتت بعض الأفراد، وحكمها في هذه الصّورة أنّها فاتت إلى غير قضاء، فلا تقضى مهما كان العذر ؛ لأنّها صلاة خاصّة لم تشرع إلاّ في وقت معيّن وبقيود خاصّة، فلا بدّ من تكاملها جميعاً، ومنها الوقت. وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة. وأمّا الشّافعيّة: فقد أطلقوا القول بمشروعيّة قضائها - على القول الصّحيح في المذهب - في أيّ وقت شاء وكيفما كان: منفرداً أو جماعةً، وذلك بناءً على أصلهم المعتمد، وهو أنّ نوافل الصّلاة كلّها يشرع قضاؤها. وأمّا الحنابلة: فقالوا: لا تقضى صلاة العيد، فإن أحبّ قضاءها فهو مخيّر إن شاء صلّاها أربعاً، إمّا بسلام واحد، وإمّا بسلامين. 8- الصّورة الثّانية: أن لا تكون صلاة العيد قد أدّيت جماعةً في وقتها من اليوم الأوّل، وذلك إمّا بسبب عذر: كأن غمّ عليهم الهلال وشهد شهود عند الإمام برؤية الهلال بعد الزّوال، وإمّا بدون عذر. ففي حالة العذر يجوز تأخيرها إلى اليوم الثّاني سواء كان العيد عيد فطر أو أضحى ؛ لأنّه قد ثبت عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «أنّ قوماً شهدوا برؤية الهلال في آخر يوم من أيّام رمضان، فأمر عليه الصلاة والسلام بالخروج إلى المصلّى من الغد». وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة فيشرع قضاء صلاة العيد في اليوم الثّاني عند تأخّر الشّهادة برؤية الهلال. أمّا المالكيّة: فقد أطلقوا القول بعدم قضائها في مثل هذه الحال. إلاّ أنّ الشّافعيّة لا يعتبرون صلاتها في اليوم الثّاني قضاءً إذا تأخّرت الشّهادة في اليوم الّذي قبله إلى ما بعد غروب الشّمس. بل لا تقبل الشّهادة حينئذ ويعتبر اليوم الثّاني أوّل أيّام العيد، فتكون الصّلاة قد أدّيت في وقتها. 9 - الصّورة الثّالثة: أن تؤخّر صلاة العيد عن وقتها بدون العذر الّذي ذكرنا في الصّورة الثّانية. فينظر حينئذ: إن كان العيد عيد فطر سقطت أصلًا ولم تقض. وإن كان عيد أضحى جاز تأخيرها إلى ثالث أيّام النّحر، أي يصحّ قضاؤها في اليوم الثّاني، وإلاّ ففي اليوم الثّالث من ارتفاع الشّمس في السّماء إلى أوّل الزّوال، سواء كان ذلك لعذر أو لغير عذر ولكن تلحقه الإساءة إن كان غير معذور بذلك.
10 - كلّ مكان طاهر، يصلح أن تؤدّى فيه صلاة العيد، سواء كان مسجداً أو عرصةً وسط البلد أو مفازةً خارجها. إلاّ أنّه يسنّ الخروج لها إلى الصّحراء أو إلى مفازة واسعة خارج البلد تأسّياً بما كان يفعله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. ولا بأس أن يستخلف الإمام غيره في البلدة ليصلّي في المسجد بالضّعفاء الّذين لا طاقة لهم بالخروج لها إلى الصّحراء. ولم يخالف أحد من الأئمّة في ذلك، إلاّ أنّ الشّافعيّة قيّدوا أفضليّة الصّلاة في الصّحراء بما إذا كان مسجد البلد ضيّقاً. وإن كان المسجد واسعاً لا يتزاحم فيه النّاس، فالصّلاة فيه أفضل ؛ لأنّ الأئمّة لم يزالوا يصلّون صلاة العيد بمكّة في المسجد ؛ ولأنّ المسجد أشرف وأنظف. ونقل صاحب المهذّب عن الشّافعيّ قوله: إن كان المسجد واسعاً فصلّى في الصّحراء فلا بأس، وإن كان ضيّقاً فصلّى فيه ولم يخرج إلى الصّحراء كرهت ؛ لأنّه إذا ترك المسجد وصلّى في الصّحراء لم يكن عليهم ضرر، وإذا ترك الصّحراء وصلّى في المسجد الضّيّق تأذّوا بالزّحام، وربّما فات بعضهم الصّلاة.
11 - صلاة العيد، لها حكم سائر الصّلوات المشروعة، فيجب ويفرض فيها كلّ ما يجب ويفرض في الصّلوات الأخرى. ويجب فيها - زيادةً على ذلك - ما يلي: أوّلاً: - أن تؤدّى في جماعة وهو قول الحنفيّة والحنابلة. ثانياً: - الجهر بالقراءة فيها، وذلك للنّقل المستفيض عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم. ثالثاً: أن يكبّر المصلّي ثلاث تكبيرات زوائد بين تكبيرة الإحرام والرّكوع في الرّكعة الأولى، وأن يكبّر مثلها - أيضاً - بين تكبيرة القيام والرّكوع في الرّكعة الثّانية. وسيّان " بالنّسبة لأداء الواجب " أن تؤدّى هذه التّكبيرات قبل القراءة أو بعدها، مع رفع اليدين أو بدونهما، ومع السّكوت بين التّكبيرات أو الاشتغال بتسبيح ونحوه. أمّا الأفضل فسنتحدّث عنه عند البحث في كيفيّتها المسنونة. فمن أدرك الإمام بعد أن كبّر هذه التّكبيرات: فإن كان لا يزال في القيام كبّر المؤتمّ لنفسه بمجرّد الدّخول في الصّلاة، وتابع الإمام. أمّا إذا أدركه راكعاً فليركع معه، وليكبّر تكبيرات الزّوائد أثناء ركوعه بدل من تسبيحات الرّكوع. وهذه التّكبيرات الزّائدة قد خالف في وجوبها المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، ثمّ اختلفوا في عدد هذه التّكبيرات ومكانها. فالشّافعيّة قالوا: هي سبع في الرّكعة الأولى بين تكبيرة الإحرام وبدء القراءة، وخمس في الرّكعة الثّانية بين تكبيرة القيام وبدء القراءة أيضاً. وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّها ستّ تكبيرات في الرّكعة الأولى عقب تكبيرة الإحرام، وخمس في الثّانية عقب القيام إلى الرّكعة الثّانية أي قبل القراءة في الرّكعتين. والجهر بالقراءة واجب عند الحنفيّة فقط. واتّفق الجميع على مشروعيّته.
12 - يندب في صلاة العيدين كلّ ما يندب في الصّلوات الأخرى: فعلاً كان، أو قراءةً، وتختصّ صلاة العيدين بمندوبات أخرى نجملها فيما يلي: أوّلاً - يسنّ أن يسكت بين كلّ تكبيرتين من التّكبيرات الزّوائد قدر ثلاث تسبيحات ولا يسنّ أن يشتغل بينهما بذكر أو تسبيح. ثانياً - يسنّ أن يرفع يديه عند التّكبيرات الزّوائد إلى شحمة أذنيه، بخلاف تكبيرة الرّكوع فلا يرفع يديه عندها. ثالثاً - يسنّ أن يوالي بين القراءة في الرّكعتين، وذلك بأن يكبّر التّكبيرات الزّوائد في الرّكعة الأولى قبل القراءة، وفي الرّكعة الثّانية بعدها، فتكون القراءتان متّصلتين على ذلك. رابعاً - يسنّ أن يقرأ في الرّكعة الأولى سورة الأعلى وفي الرّكعة الثّانية سورة الغاشية ولا يلتزمهما دائماً كي لا يترتّب على ذلك هجر بقيّة سور القرآن. خامساً - يسنّ أن يخطب بعدها خطبتين، لا يختلف في كلّ منهما في واجباتها وسننها عن خطبتي الجمعة. إلاّ أنّه يستحبّ أن يفتتح الأولى منهما بتسع تكبيرات متتابعات والثّانية بسبع مثلها. هذا ولا يشرع لصلاة العيد أذان ولا إقامة، بل ينادى لها: الصّلاة جامعةً. 13 - ولها - أيضاً - سنن تتّصل بها وهي قبل الصّلاة أو بعدها نجملها فيما يلي: أوّلاً: أن يطعم شيئاً قبل غدوّه إلى الصّلاة إذا كان العيد عيد فطر، ويسنّ أن يكون المطعوم حلوًا كتمر ونحوه، لما روى البخاريّ «أنّه صلى الله عليه وسلم كان لا يغدو يوم الفطر حتّى يأكل تمرات». ثانياً: يسنّ أن يغتسل ويتطيّب ويلبس أحسن ثيابه. ثالثاً: يسنّ الخروج إلى المصلّى ماشياً، فإذا عاد ندب له أن يسير من طريق أخرى غير الّتي أتى منها. ولا بأس أن يعود راكباً. ثمّ إن كان العيد فطراً سنّ الخروج إلى المصلّى بدون جهر بالتّكبير في الأصحّ عند الحنفيّة. رابعاً: إن كان أضحى فيسنّ الجهر بالتّكبير في الطّريق إليه. قال في الدّرّ المختار: قيل: وفي المصلّى أيضاً وعليه عمل النّاس اليوم. واتّفقت بقيّة الأئمّة مع الحنفيّة في استحباب الخروج إلى المصلّى ماشياً والعود من طريق آخر، وأن يطعم شيئاً يوم عيد الفطر قبل خروجه إلى الصّلاة، وأن يغتسل ويتطيّب ويلبس أحسن ثيابه. أمّا التّكبير في الطّريق إلى المصلّى فقد خالف الحنفيّة في ذلك كلّ من المالكيّة والحنابلة، والشّافعيّة، فذهبوا إلى أنّه يندب التّكبير عند الخروج إلى المصلّى والجهر به في كلّ من عيدي الفطر والأضحى. وأمّا التّكبير في المصلّى: فقد ذهبت الشّافعيّة " في الأصحّ من أقوال ثلاثة " إلى أنّه يسنّ للنّاس الاستمرار في التّكبير إلى أن يحرم الإمام بصلاة العيد. وذهب المالكيّة - أيضاً - إلى ذلك استحساناً. قال العلّامة الدّسوقيّ في حاشيته على الشّرح الكبير: وأمّا التّكبير جماعةً وهم جالسون في المصلّى فهذا هو الّذي استحسن، وهو رأي عند الحنابلة أيضاً. وأمّا التّكبيرات الزّوائد في الصّلاة: فقد خالف الحنفيّة في استحباب موالاتها، وعدم فصل أيّ ذكر بينها كلّ من الحنابلة والشّافعيّة حيث ذهب هؤلاء جميعاً إلى أنّه يستحبّ أن يفصل بينها بذكر، وأفضله أن يقول: سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر. أو يقول: اللّه أكبر كبيراً والحمد للّه كثيراً وسبحان اللّه وبحمده بكرةً وأصيلاً. كما خالف المالكيّة في استحباب رفع اليدين عند التّكبيرات الزّوائد، فذهبوا إلى أنّ الأفضل عدم رفع اليدين عند شيء منها. كما خالف المالكيّة، في عدد التّكبيرات الّتي يستحبّ افتتاح الخطبة بها. ويستحبّ عندهم أن تفتتح الخطبة بالتّكبير ولا تحديد للعدد عندهم. وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا سنّة لها قبليّةً ولا بعديّةً، ولا تصلّى أي نافلة قبلها وقبل الفراغ من خطبتها ؛ لأنّ الوقت وقت كراهة، فلا يصلّى فيه غير العيد. أمّا بعد الفراغ من الخطبة فلا بأس بالصّلاة. وذهب الشّافعيّة إلى أنّه لا يكره التّنفّل قبلها ولا بعدها لما عدا الإمام، سواء صلّيت في المسجد أو المصلّى. وفصَّل المالكيّة فقالوا: يكره التّنفّل قبلها وبعدها إلى الزّوال، إن أدّيت في المصلّى ولا يكره إن أدّيت في المسجد. وللحنابلة تفصيل آخر فقد قالوا: لا يتنفّل قبل الصّلاة ولا بعدها كلّ من الإمام والمأموم، في المكان الّذي صلّيت فيه، فأمّا في غير موضعها فلا بأس.
14 - لصلاة العيد مفسدات مشتركة ومفسدات خاصّة. أمّا مفسداتها المشتركة: فهي مفسدات سائر الصّلوات. (راجع: صلاة). وأمّا مفسداتها الخاصّة بها، فتلخّص في أمرين: الأوّل: أن يخرج وقتها أثناء أدائها بأن يدخل وقت الزّوال، فتفسد بذلك. قال ابن عابدين: أي يفسد وصفها وتنقلب نفلاً، اتّفاقاً إن كان الزّوال قبل القعود قدر التّشهّد، وعلى قول الإمام أبي حنيفة إن كان بعده. الثّاني: انفساخ الجماعة أثناء أدائها. فذلك - أيضاً - من مفسدات صلاة العيد. وهل يشترط لفسادها أن تفسخ الجماعة قبل أن تقيّد الرّكعة الأولى بالسّجدة، أم تفسد مطلقاً؟ يرد في ذلك خلاف وتفصيله في مفسدات صلاة الجمعة (ر: صلاة الجمعة). وخالف المالكيّة والشّافعيّة بالنّسبة لانفساخ الجماعة.
15 - قال صاحب البدائع: إن فسدت صلاة العيد بما تفسد به سائر الصّلوات من الحدث العمد وغير ذلك، يستقبل الصّلاة على شرائطها، وإن فسدت بخروج الوقت، أو فاتت عن وقتها مع الإمام سقطت ولا يقضيها عندنا. وسائر الأئمّة متّفقون على أنّ صلاة العيد إذا فسدت بما تفسد به سائر الصّلوات الأخرى، تستأنف من جديد. أمّا إن فسدت بخروج الوقت فقد اختلفوا في حكم قضائها أو إعادتها، وقد مرّ تفصيل البحث في ذلك عند الكلام على وقت صلاة العيد ف / 7 وما بعدها.
16 - أمّا شعائره فأبرزها: التّكبير. وصيغته: اللّه أكبر اللّه أكبر لا إله إلاّ اللّه، واللّه أكبر اللّه أكبر، وللّه الحمد. وخالفت الشّافعيّة والمالكيّة، فذهبوا إلى جعل التّكبيرات الأولى في الصّيغة ثلاثاً بدل ثنتين. ثمّ إنّ هذا التّكبير يعتبر شعاراً لكلّ من عيدي الفطر والأضحى، أمّا مكان التّكبير وحكمه وكيفيّته في عيد الفطر فقد مرّ الحديث عنه ف / 12. وأمّا حكمه ومكانه في عيد الأضحى، فيجب التّكبير مرّةً عقب كلّ فرض أدّي جماعةً، أو قضي في أيّام العيد، ولكنّه كان متروكاً فيها، من بعد فجر يوم عرفة إلى ما بعد عصر يوم العيد. وذهب أبو يوسف ومحمّد " وهو المعتمد في المذهب " إلى أنّه يجب بعد كلّ فرض مطلقاً، ولو كان المصلّي منفرداً أو مسافراً أو امرأةً، من فجر يوم عرفة إلى ما بعد عصر اليوم الثّالث من أيّام التّشريق. أمّا ما يتعلّق بحكم التّكبير: فسائر المذاهب على أنّ التّكبير سنّة أو سنّة مؤكّدة وليس بواجب. والمالكيّة يشرع التّكبير عندهم إثر خمس عشرة صلاةً تبدأ من ظهر يوم النّحر. وأمّا ما يتعلّق بنوع الصّلاة الّتي يشرع بعدها التّكبير: فقد اختلفت في ذلك المذاهب: فالشّافعيّة على أنّه يشرع التّكبير عقب كلّ الصّلوات فرضاً كانت أم نافلةً على اختلافها لأنّ التّكبير شعار الوقت فلا يختصّ بنوع من الصّلاة دون آخر. والحنابلة على أنّه يختصّ بالفروض المؤدّاة جماعةً من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيّام التّشريق، فلا يشرع عقب ما أدّي فرادى من الصّلوات. والمالكيّة على أنّه يشرع عقب الفرائض الّتي تصلّى أداءً، فلا يشرع عقب ما صلّي من ذلك قضاءً مطلقاً أي سواء كان متروكات العيد أم لا. ر: تكبير ج /13، ف /7، 14، 15. من الموسوعة. 17 - وأمّا آدابه فمنها: الاغتسال ويدخل وقته بنصف اللّيل، والتّطيّب، والاستياك، ولبس أحسن الثّياب. ويسنّ أن يكون ذلك قبل الصّلاة، وأداء فطرته قبل الصّلاة. ومن آداب العيد: إظهار البشاشة والسّرور فيه أمام الأهل والأقارب والأصدقاء، وإكثار الصّدقات. قال في الدّرّ المختار: والتّهنئة بتقبّل اللّه منّا ومنكم لا تنكر. ونقل ابن عابدين الخلاف في ذلك ثمّ صحّح القول بأنّ ذلك حسن لا ينكر، واستند في تصحيحه هذا إلى ما نقله عن المحقّق ابن أمير الحاجّ من قوله: بأنّ ذلك مستحبّ في الجملة. وقاس على ذلك ما اعتاده أهل البلاد الشّاميّة والمصريّة من قولهم لبعض: عيد مبارك. وذكر الشّهاب ابن حجر - أيضاً - أنّ هذه التّهنئة على اختلاف صيغها مشروعة، واحتجّ له بأنّ البيهقيّ عقد له باباً فقال: باب ما روي في قول النّاس بعضهم لبعض في العيد: تقبّل اللّه منّا ومنكم، وساق فيه ما ذكره من أخبار وآثار ضعيفة لكن مجموعها يحتجّ به في مثل ذلك، ثمّ قال الشّهاب: ويحتجّ لعموم التّهنئة بسبب ما يحدث من نعمة، أو يندفع من نقمة بمشروعيّة سجود الشّكر، وبما في الصّحيحين «عن كعب بن مالك في قصّة توبته لمّا تخلّف في غزوة تبوك: أنّه لمّا بشّر بقبول توبته مضى إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم قام إليه طلحة بن عبيد اللّه فهنّأه». كما يكره حمل السّلاح فيه، إلاّ أن يكون مخافة عدوّ مثلاً ؛ لما ورد في ذلك من النّهي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
انظر: جنائز.
انظر: الصّلوات الخمس المفروضة.
انظر: قضاء الفوائت.
انظر: سفينة.
انظر: كعبة.
انظر: قيام اللّيل.
1 - هذا المصطلح مركّب في لفظين تركيب إضافة: صلاة، والكسوف. فالصّلاة تنظر في مصطلح: (صلاة). أمّا الكسوف: فهو ذهاب ضوء أحد النّيّرين " الشّمس، والقمر " أو بعضه، وتغيّره إلى سواد، يقال: كسفت الشّمس، وكذا خسفت، كما يقال: كسف القمر، وكذا خسف، فالكسوف، والخسوف، مترادفان، وقيل: الكسوف للشّمس، والخسوف للقمر، وهو الأشهر في اللّغة. وصلاة الكسوف: صلاة تؤدّى بكيفيّة مخصوصة، عند ظلمة أحد النّيّرين أو بعضهما.
2 - الصّلاة لكسوف الشّمس سنّة مؤكّدة عند جميع الفقهاء، وفي قول للحنفيّة: إنّها واجبة. أمّا الصّلاة لخسوف القمر فهي سنّة مؤكّدة عند الشّافعيّة والحنابلة، وهي حسنة عند الحنفيّة، ومندوبة عند المالكيّة. والأصل في ذلك الأخبار الصّحيحة: كخبر الشّيخين: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الشّمس والقمر آيتان من آيات اللّه، لا ينكسفان لموت أحد، ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فادعوا اللّه، وصلّوا حتّى ينجلي»، «ولأنّه صلى الله عليه وسلم صلّاها لكسوف الشّمس» كما رواه الشّيخان، ولكسوف القمر كما رواه ابن حبّان في كتابه الثّقات. وعن «ابن عبّاس - رضي الله عنه -: أنّه صلّى بأهل البصرة في خسوف القمر ركعتين وقال: إنّما صلّيت لأنّي رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصلّي». والصّارف عن الوجوب: حديث الأعرابيّ المعروف: «هل عليّ غيرها». ولأنّها صلاة ذات ركوع وسجود، لا أذان لها ولا إقامة، كصلاة الاستسقاء.
3 - ووقتها من ظهور الكسوف إلى حين زواله ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتموهما فادعوا اللّه وصلّوا حتّى ينجلي» فجعل الانجلاء غايةً للصّلاة ؛ ولأنّها شرعت رغبةً إلى اللّه في ردّ نعمة الضّوء، فإذا حصل ذلك حصل المقصود من الصّلاة.
4 - اختلف الفقهاء في ذلك. فذهب الحنفيّة، وهو ظاهر المذهب عند الحنابلة، وهو رواية عن مالك إلى أنّها لا تصلّى في الأوقات الّتي ورد النّهي عن الصّلاة فيها، كسائر الصّلوات، فإن صادف الكسوف في هذه الأوقات لم تصلّ، جعل في مكانها تسبيحاً، وتهليلاً، واستغفاراً، وقالوا: لأنّه إن كانت هذه الصّلاة نافلةً فالتّنفّل في هذه الأوقات مكروه وإن كان لها سبب، وإن كانت واجبةً فأداء الصّلاة الواجبة فيها مكروه أيضاً. وقال الشّافعيّة - وهو رواية أخرى عن مالك ورواية عن أحمد -: تصلّى في كلّ الأوقات، كسائر الصّلوات الّتي لها سبب متقدّم أو مقارن، كالمقضيّة وصلاة الاستسقاء، وركعتي الوضوء، وتحيّة المسجد. والرّواية الثّالثة عن مالك: أنّها إذا طلعت مكسوفةً يصلّى حالاً، وإذا دخل العصر مكسوفةً، أو كسفت عندهما لم يصلّ لها.
5 - تفوت صلاة كسوف الشّمس بأحد أمرين: الأوّل: انجلاء جميعها، فإن انجلى البعض فله الشّروع في الصّلاة للباقي، كما لو لم ينكسف إلاّ ذلك القدر. الثّاني: بغروبها كاسفةً. ويفوت خسوف القمر بأحد أمرين: الأوّل: الانجلاء الكامل. الثّاني: طلوع الشّمس. ولو حال سحاب، وشكّ في الانجلاء صلّى ؛ لأنّ الأصل بقاء الكسوف. ولو كانا تحت غمام، فظنّ الكسوف لم يصلّ حتّى يستيقن. وقال المالكيّة: إن غاب القمر وهو خاسف لم يصلّ. وإن صلّ ولم تنجل لم تكرّر الصّلاة، لأنّه لم ينقل عن أحد، وإن انجلت وهو في الصّلاة أتمّها ؛ لأنّها صلاة أصل، غير بدل عن غيرها ؛ فلا يخرج منها بخروج وقتها كسائر الصّلوات.
6 - يسنّ لمريد صلاة الكسوف: أ - أن يغتسل لها ؛ لأنّها صلاة شرع لها الاجتماع. ب - وأن تصلّى حيث تصلّى الجمعة ؛ «لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم: صلّاها في المسجد». ج - وأن يدعى لها: " الصّلاة جامعةً " لما روى عبد اللّه بن عمرو - رضي الله عنهما -: «قال: لمّا كسفت الشّمس على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نودي: إنّ الصّلاة جامعة» وليس لها أذان ولا إقامة اتّفاقاً. د - وأن يكثر ذكر اللّه، والاستغفار، والتّكبير والصّدقة، والتّقرّب إلى اللّه تعالى بما استطاع من القرب، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «فإذا رأيتم ذلك فادعوا اللّه وكبّروا وصلّوا وتصدّقوا». هـ - وأن يصلّوا جماعةً لأنّ «النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّاها في جماعة». وقال أبو حنيفة، ومالك: يصلّى لخسوف القمر وحداناً: ركعتين، ركعتين، ولا يصلّونها جماعةً، لأنّ الصّلاة جماعةً لخسوف القمر لم تنقل عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم مع أنّ خسوفه كان أكثر من كسوف الشّمس ؛ ولأنّ الأصل أنّ غير المكتوبة لا تؤدّى بجماعة إلاّ إذا ثبت ذلك بدليل، ولا دليل فيها.
7 - قال أبو حنيفة ومالك وأحمد: لا خطبة لصلاة الكسوف، وذلك لخبر: «فإذا رأيتم ذلك فادعوا اللّه، وكبّروا، وصلّوا وتصدّقوا» أمرهم - عليه الصلاة والسلام - بالصّلاة، والدّعاء، والتّكبير، والصّدقة، ولم يأمرهم بخطبة، ولو كانت الخطبة مشروعةً فيها لأمرهم بها ؛ ولأنّها صلاة يفعلها المنفرد في بيته ؛ فلم يشرع لها خطبة. وقال الشّافعيّة: يسنّ أن يخطب لها بعد الصّلاة خطبتان، كخطبتي العيد. لما روت عائشة - رضي الله عنها -: «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا فرغ من الصّلاة قام وخطب النّاس، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال: إنّ الشّمس والقمر آيتان من آيات اللّه عزّ وجلّ، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا اللّه وكبّروا وصلّوا وتصدّقوا». 8 - وتشرع صلاة الكسوف للمنفرد، والمسافر والنّساء ؛ لأنّ عائشة، وأسماء - رضي الله عنهما - صلّتا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم. ويستحبّ للنّساء غير ذوات الهيئات أن يصلّين مع الإمام، وأمّا اللّواتي تخشى الفتنة منهنّ فيصلّين في البيوت منفردات. فإن اجتمعن فلا بأس، إلاّ أنّهنّ لا يخطبن.
9 - لا يشترط لإقامتها إذن الإمام ؛ لأنّها نافلة وليس إذنه شرطاً في نافلة، فإذا ترك الإمام صلاة الكسوف فللنّاس أن يصلّوها علانيةً إن لم يخافوا فتنةً، وسرّاً إن خافوها، إلى هذا ذهب الشّافعيّة، والحنابلة. وقال الحنفيّة في ظاهر الرّواية: لا يقيمها جماعةً إلاّ الإمام الّذي يصلّي بالنّاس الجمعة والعيدين، لأنّ أداء هذه الصّلاة جماعةً عرف بإقامة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فلا يقيمها إلاّ من هو قائم مقامه. فإن لم يقمها الإمام صلّى النّاس حينئذ فرادى. وروي عن أبي حنيفة أنّه قال: إنّ لكلّ إمام مسجد أن يصلّي بالنّاس في مسجده بجماعة ؛ لأنّ هذه الصّلاة غير متعلّقة بالمصر، فلا تكون متعلّقةً بالسّلطان كغيرها من الصّلوات.
10 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ صلاة الكسوف ركعتان. واختلفوا في كيفيّة الصّلاة بها. وذهب الأئمّة: مالك، والشّافعيّ، وأحمد: إلى أنّها ركعتان في كلّ ركعة قيامان، وقراءتان، وركوعان، وسجدتان. واستدلّوا: بما رواه ابن عبّاس - رضي الله عنهما - قال: «كسفت الشّمس على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فصلّى الرّسول صلى الله عليه وسلم والنّاس معه، فقام قياماً طويلاً نحواً من سورة البقرة، ثمّ ركع ركوعاً طويلاً، ثمّ قام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأوّل، ثمّ ركع ركوعاً طويلاً، وهو دون الرّكوع الأوّل». وقالوا: وإن كانت هناك روايات أخرى، إلاّ أنّ هذه الرّواية هي أشهر الرّوايات في الباب. والخلاف بين الأئمّة في الكمال لا في الإجزاء والصّحّة فيجزئ في أصل السّنّة ركعتان كسائر النّوافل عند الجميع. وأدنى الكمال عند الأئمّة الثّلاثة: أن يحرم بنيّة صلاة الكسوف، ويقرأ فاتحة الكتاب، ثمّ يركع، ثمّ يرفع رأسه ويطمئنّ، ثمّ يركع ثانياً، ثمّ يرفع ويطمئنّ، ثمّ يسجد سجدتين فهذه ركعة. ثمّ يصلّي ركعةً أخرى كذلك. فهي ركعتان: في كلّ ركعة قيامان، وركوعان، وسجدتان. وباقي الصّلاة من قراءة، وتشهّد، وطمأنينة كغيرها من الصّلوات. وأعلى الكمال: أن يحرم، ويستفتح، ويستعيذ، ويقرأ الفاتحة، سورة البقرة، أو قدرها في الطّول، ثمّ يركع ركوعاً طويلاً فيسبّح قدر مائة آية، ثمّ يرفع من ركوعه، فيسبّح، ويحمد في اعتداله. ثمّ يقرأ الفاتحة، وسورةً دون القراءة الأولى: آل عمران، أو قدرها، ثمّ يركع فيطيل الرّكوع، وهو دون الرّكوع الأوّل، ثمّ يرفع من الرّكوع، فيسبّح، ويحمد، ولا يطيل الاعتدال، ثمّ يسجد سجدتين طويلتين، ولا يطيل الجلوس بين السّجدتين. ثمّ يقوم إلى الرّكعة الثّانية، فيفعل مثل ذلك المذكور في الرّكعة الأولى من الرّكوعين وغيرهما، لكن يكون دون الأوّل في الطّول في كلّ ما يفعل ثمّ يتشهّد ويسلّم. وقال الحنفيّة: إنّها ركعتان، في كلّ ركعة قيام واحد، وركوع واحد وسجدتان كسائر النّوافل. واستدلّوا بحديث أبي بكرة، قال: «خسفت الشّمس على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فخرج يجرّ رداءه حتّى انتهى إلى المسجد وثاب النّاس إليه، فصلّى بهم ركعتين». إلخ " ومطلق الصّلاة تنصرف إلى الصّلاة المعهودة. وفي رواية: «فصلّى ركعتين كما يصلّون».
11 - يجهر بالقراءة في خسوف القمر ؛ لأنّها صلاة ليليّة ولخبر عائشة - رضي الله عنها- قالت: «إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم جهر في صلاة الخسوف». ولا يجهر في صلاة كسوف الشّمس ؛ لما روى ابن عبّاس - رضي الله عنهما - قال: «إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى صلاة الكسوف، فلم نسمع له صوتاً». وإلى هذا ذهب أبو حنيفة والمالكيّة والشّافعيّة. وقال أحمد، وأبو يوسف: يجهر بها، وهو رواية عن مالك. وقالوا: قد روي ذلك عن عليّ - رضي الله عنه - وفعله عبد اللّه بن زيد وبحضرته البراء بن عازب، وزيد بن أرقم. وروت عائشة - رضي الله عنها -: «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم: صلّى صلاة الكسوف، وجهر فيها بالقراءة» ولأنّها نافلة شرعت لها الجماعة، فكان من سننها الجهر كصلاة الاستسقاء، والعيدين.
12 - إذا اجتمع مع الكسوف أو الخسوف غيره من الصّلاة: كالجمعة، أو العيد، أو صلاة مكتوبة، أو الوتر، ولم يُؤمَن من الفوات، قدّم الأخوف فوتاً ثمّ الآكد، فتقدّم الفريضة، ثمّ الجنازة، ثمّ العيد، ثمّ الكسوف. ولو اجتمع وتر وخسوف قدّم الخسوف ؛ لأنّ صلاته آكد حينئذ لخوف فوتها. وإن أمن من الفوات، تقدّم الجنازة ثمّ الكسوف أو الخسوف، ثمّ الفريضة.
13 - قال الحنفيّة: تستحبّ الصّلاة في كلّ فزع: كالرّيح الشّديدة، والزّلزلة، والظّلمة، والمطر الدّائم لكونها من الأفزاع، والأهوال. وقد روي: أنّ ابن عبّاس - رضي الله عنهما - صلّى لزلزلة بالبصرة. وعند الحنابلة: لا يصلّى لشيء من ذلك إلاّ الزّلزلة الدّائمة، فيصلّى لها كصلاة الكسوف ؛ لفعل ابن عبّاس - رضي الله عنهما - أمّا غيرها فلم ينقل عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه الصّلاة له. وفي رواية عن أحمد: أنّه يصلّى لكلّ آية. وقال الشّافعيّة: لا يصلّى لغير الكسوفين صلاة جماعة، بل يستحبّ أن يصلّى في بيته، وأن يتضرّع إلى اللّه بالدّعاء عند رؤية هذه الآيات، وقال الإمام الشّافعيّ - رحمه الله -: لا آمر بصلاة جماعة في زلزلة، ولا ظلمة، ولا لصواعق، ولا ريح، ولا غير ذلك من الآيات، وآمر بالصّلاة منفردين، كما يصلّون منفردين سائر الصّلوات. وقال المالكيّة: لا يصلّى لهذه الآيات مطلقاً.
1 - المريض لغةً: من المرض، والمرض - بفتح الرّاء وسكونها - فساد المزاج. والمرض اصطلاحاً: ما يعرض للبدن، فيخرجه عن الاعتدال الخاصّ، والمريض من اتّصف بذلك.
صلاة أهل الأعذار: 2 - أهل الأعذار: هم الخائف، والعريان، والغريق، والسّجين، والمسافر، والمريض وغيرهم، وبعض هذه الألفاظ أفردت له أحكام خاصّة، وبعضها تدخل أحكامه في صلاة المريض.
3 - لا خلاف بين الفقهاء في جواز صلاة التّطوّع قاعداً مع القدرة على القيام ؛ لأنّ النّوافل تكثر، فلو وجب فيها القيام مثلاً شقّ ذلك ؛ وانقطعت النّوافل، ولا خلاف في أنّ القيام أفضل. أمّا صلاة الفرض فحكمها التّكليفيّ يختلف باختلاف نوع المرض، وتأثيره على الأفعال والأقوال فيها، وهي تشمل الفرض العينيّ والكفائيّ، كصلاة الجنازة، وصلاة العيد عند من أوجبها، وتشمل الواجب بالنّذر على من نذر القيام فيه. وقد أجمع الفقهاء على أنّ من لا يطيق القيام له أن يصلّي جالساً.
4 - إذا تعذّر على المريض كلّ القيام، أو تعسّر القيام كلّه، بوجود ألم شديد أو خوف زيادة المرض أو بطئه - يصلّي قاعداً بركوع وسجود. والألم الشّديد كدوران رأس، أو وجع ضرس، أو شقيقة أو رمد. ويخرج به ما لو لحق المصلّي نوع من المشقّة فإنّه لا يجوز له ترك القيام. ومثل الألم الشّديد خوف لحوق الضّرر من عدوّ آدميّ أو غيره على نفسه أو ماله لو صلّى قائماً. وكذلك لو غلب على ظنّه بتجربة سابقة، أو إخبار طبيب مسلم أنّه لو قام زاد سلس بوله، أو سال جرحه، أو أبطأ برؤه، فإنّه يترك القيام ويصلّي قاعداً. وإذا تعذّر كلّ القيام فهذا القدر الحقيقيّ، وما سواه فهو حكميّ.
5 - القيام ركن في الصّلاة المفروضة لما ورد عن عمران بن حصين - أنّه قال -: «كانت بي بواسير، فسألت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنبك». فإن عجز عن القيام صلّى قاعداً ؛ للحديث المذكور ؛ ولأنّ الطّاعة بحسب الطّاقة. فإن صلّى مع الإمام قائماً بعض الصّلاة، وفتر في بعضها فصلّى جالساً صحّت صلاته. ومن صلّى قاعداً يركع ويسجد ثمّ برئ بنى على صلاته قائماً عند الحنفيّة، والحنابلة، وجاز عند المالكيّة أن يقوم ببعض الصّلاة ثمّ يصلّي على قدر طاقته ثمّ يرجع فيقوم ببعضها الآخر، وكذلك الجلوس إن تقوّس ظهره حتّى صار كأنّه راكع، رفع رأسه في موضع القيام على قدر طاقته. وتفصيل ذلك في مصطلح (انحناء).
6 - إن كان بعين المريض وجع، بحيث لو قعد أو سجد زاد ألم عينه فأمره الطّبيب المسلم الثّقة بالاستلقاء أيّاماً، ونهاه عن القعود والسّجود، وهو قادر على القيام فقيل له: إن صلّيت مستلقيًا أمكن مداواتك فقد اختلف الفقهاء فيه على رأيين: الأوّل: عند جمهور الفقهاء يجوز له ترك القيام ؛ لأنّه يخاف الضّرر من القيام فأشبه المريض فيجزئه أن يستلقي ويصلّي بالإيماء لأنّ حرمة الأعضاء كحرمة النّفس. الثّاني: لا يجوز له ترك القيام، وهو وجه عند الشّافعيّة لما روي أنّ ابن عبّاس - رضي الله عنهما - لمّا وقع في عينيه الماء حمل إليه عبد الملك الأطبّاء فقيل له: إنّك تمكث سبعة أيّام لا تصلّي إلاّ مستلقياً فسأل عائشة، وأمّ سلمة - رضي الله عنهما - فنهتاه.
7 - يستحبّ رفع اليدين مع تكبيرة الإحرام حذو منكبيه ؛ لما ورد عن ابن عمر – رضي الله عنهما - «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصّلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا كبّر للرّكوع، وإذا رفع رأسه من الرّكوع». فإن لم يمكنه رفعهما، أو أمكنه رفع إحداهما، أو رفعهما إلى ما دون المنكب رفع ما أمكنه لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم». فإن كان به علّة إذا رفع اليد جاوز المنكب رفع ؛ لأنّه يأتي بالمأمور به وزيادة هو مغلوب عليها. ويجوز للمريض غير القادر على أداء ركن من أركان الصّلاة الاتّكاء على شيء، ويرجع في ذلك إلى مصطلح: (اتّكاء، استناد).
8 - الرّكوع في الصّلاة ركن ؛ لقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} والجمهور على أنّ من لم يمكنه الرّكوع أومأ إليه، وقرّب وجهه إلى الأرض على قدر طاقته، ويجعل الإيماء للسّجود أخفض من إيماء الرّكوع، لكن الخلاف في كيفيّة أداء ذلك مع عدم القدرة على الرّكوع دون القيام. اختلف الفقهاء في ذلك على رأيين: الأوّل: وهو الّذي عليه الجمهور أنّ القادر على القيام دون الرّكوع يومئ من القيام، لأنّ الرّاكع كالقائم في نصب رجليه، وذلك لقوله تعالى: {وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} «وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: صلّ قائماً» ولأنّه ركن قدر عليه، على أن يكون هناك فرق واضح بين الإيماءين إذا عجز عن السّجود أيضاً. الثّاني: عند الحنفيّة أنّ القيام يسقط عن المريض حال الرّكوع، ولو قدر على القيام مع عدم القدرة على الرّكوع فيصلّي قاعداً يومئ إيماءً ؛ لأنّ ركنيّة القيام للتّوصّل به إلى السّجدة ؛ لما فيها من نهاية التّعظيم، فإذا كان لا يتعقّبه السّجود لا يكون ركنًا فيتخيّر، والأفضل عندهم هو الإيماء قاعداً ؛ لأنّه أشبه بالسّجود.
9 - السّجود ركن في الصّلاة لقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}، واختلفوا في عدم القدرة على السّجود والجلوس مع القدرة على القيام على اتّجاهين: الأوّل: يرى المالكيّة والشّافعيّة أنّ القادر على القيام فقط دون السّجود والجلوس يومئ لهما من القيام، ولا يجوز له أن يضطجع ويومئ لهما من اضطجاعه، فإن اضطجع تبطل الصّلاة عندهم. الثّاني: يرى الحنفيّة والحنابلة أنّ القادر على القيام فقط دون السّجود والجلوس يومئ لهما وهو قائم ؛ لأنّ السّاجد عندهم كالجالس في جمع رجليه على أن يحصل فرق بين الإيماءين.
10 - السّجود على الجبهة واجب، حيث «كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا سجد أمكن أنفه وجبهته من الأرض» وإن سجد على مخدّة أجزأه ؛ لأنّ أمّ سلمة – رضي الله عنها – سجدت على مخدّة لرمد بها بلا رفع، واحتجّ بفعل ابن عبّاس - رضي الله عنهما - وغيرهما. فإن رفع شيئاً كالوسادة أو الخشبة أو الحجر إلى جبهته فإنّ الحنفيّة يرون أنّه لا يجزئه ؛ لانعدام السّجود لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن استطعت أن تسجد على الأرض وإلاّ فأومئ إيماءً، واجعل سجودك أخفض من ركوعك برأسك» فإن فعل ذلك وهو يخفض رأسه أجزأه ؛ لوجود الإيماء، وإن وضع ذلك على جبهته لا يجزئه. ويكره عند بعض الحنابلة ويجزئه عند آخرين نصّاً ؛ لأنّه أتى بما أمكنه منه أشبه الإيماء. وإذا لم يستطع المصلّي تمكين جبهته من الأرض لعلّة بها، اقتصر على الأنف عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، وزاد الشّافعيّة: إن كان بجبهته جراحة عصبها بعصابة وسجد عليها، ولا إعادة عليه على المذهب.
11 - المريض العاجز عن استقبال القبلة ولا يجد من يحوّله إليها - لا متبرّعاً ولا بأجرة مثله وهو واجدها - فإنّه يصلّي على حسب حالته. وللتّفصيل راجع مصطلح: (استقبال).
12 - المريض إن قدر على الصّلاة وحده قائماً، ولا يقدر على ذلك مع الإمام لتطويله صلّى منفرداً ؛ لأنّ القيام آكد ؛ لكونه ركناً في الصّلاة لا تتمّ إلاّ به. والجماعة تصحّ الصّلاة بدونها ؛ ولأنّ العجز يتضاعف بالجماعة أكثر من تضاعفه بالقيام، بدليل أنّ صلاة القاعد على النّصف من صلاة القائم، وصلاة الجماعة تفضل صلاة الرّجل وحده سبعاً وعشرين درجةً.
13 - إن تعذّر على المريض القيام والجلوس في آن واحد صلّى على جنبه دون تحديد للشّقّ الأيمن أو الأيسر، وهذا هو مذهب المالكيّة، والشّافعيّة، والحنابلة. وذهب المالكيّة، والحنابلة إلى أنّه من الأفضل أن يصلّي على جنبه الأيمن ثمّ الأيسر، فإن لم يستطع على جنبه يصلّي مستلقياً على قفاه ورجلاه إلى القبلة وأومأ بطرفه. والدّليل على ما سبق «قول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لعمران بن حصين: صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب». وقال المالكيّة: إن لم يستطع أن يصلّي مستلقياً على ظهره صلّى على بطنه ورأسه إلى القبلة، فإن قدّمها على الظّهر بطلت. وذهب الحنفيّة إلى أنّه إن تعسّر القعود أومأ مستلقياً على قفاه، أو على أحد جنبيه والأيمن أفضل من الأيسر، والاستلقاء على قفاه أولى من الجنب إن تيسّر، والمستلقي يجعل تحت رأسه شيئاً كالوسادة ؛ ليصير وجهه إلى القبلة لا إلى السّماء، وليتمكّن من الإيماء. وصلاة المريض بالهيئة الّتي ذكرها الفقهاء فيما سبق لا ينقص من أجره شيئاً ؛ لحديث أبي موسى - رضي الله عنه - مرفوعاً: «إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً».
14 - إن لم يستطع المريض القيام والقعود أو الرّكوع أو الجلوس أو جميعها فاحتاج إلى الإيماء فهل يومئ برأسه لها أم بعينه أم بقلبه؟ فالجمهور أنّ المريض يومئ بما يستطيعه وذلك لحديث: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» والأصل أنّ المريض إذا لم يستطع إلاّ الإيماء فيومئ برأسه، فإن عجز عن الإيماء برأسه أومأ بطرفه (عينه) ناوياً مستحضراً تيسيراً له للفعل عند إيمائه، وناوياً القول إذا أومأ له، فإن عجز عن القول فبقلبه مستحضراً له، كالأسير، والخائف من آخرين إن علموا بصلاته يؤذونه. أمّا الحنفيّة - ما عدا زفر - فإنّ الّذي لا يستطيع الإيماء برأسه فعليه أن يؤخّر الصّلاة، ولا يومئ بعينه ولا بقلبه ولا بحاجبه. وعندهم لا قياس على الرّأس ؛ لأنّه يتأدّى به ركن الصّلاة دون العين وغيرها وإن كان العجز أكثر من يوم وليلة إذا كان مفيقاً ؛ لأنّه يفهم مضمون الخطاب بخلاف المغمى عليه.
15 - قد يعجز المريض بعض الوقت عن قيام، أو قعود، أو ركوع، أو سجود، ثمّ يستطيعه بعد ذلك. فالجمهور على أنّه يجوز أن يؤدّي صلاته بقدر طاقته، ويرجع إلى ما يستطيعه بعد ذلك، فلو افتتح الصّلاة قائماً ثمّ عجز فقعد وأتمّ صلاته جاز له ذلك. وإن افتتحها قاعداً ثمّ قدر على القيام قام وأتمّ صلاته ؛ لأنّه يجوز أن يؤدّي جميع صلاته قاعداً عند العجز، وجميعها قائماً عند القدرة، فجاز أن يؤدّي بعضها قاعداً عند العجز وبعضها قائماً عند القدرة. وإن افتتح الصّلاة قاعداً ثمّ عجز اضطجع، وإن افتتحها مضطجعاً ثمّ قدر على القيام أو القعود قام أو قعد
16 - قال النّوويّ: لا يلزم المريض الطّمأنينة عند القيام ؛ لأنّه ليس مقصوداً لنفسه. واختلف الحنفيّة هل هو سنّة أم واجب؟ وتفصيل ذلك يرجع فيه إلى مصطلح: (صلاة).
17 - المريض تختلف حاله من واحد لآخر فقد يكون المرض سلس بول، أو انفلات ريح، أو جرحاً سائلاً أو رعافاً، ولكلّ حالة من هذه الحالات أحكام خاصّة بالنّسبة للإمامة تنظر في مصطلح: (اقتداء، إمامة).
18 - للفقهاء في مسألة الجمع بين الصّلاتين للمريض رأيان. فذهب الحنفيّة، والشّافعيّة، وبعض المالكيّة إلى أنّه لا يجوز للمريض الجمع بين الصّلاتين لأجل المرض، وذلك لأنّه لم ينقل عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه جمع لأجل المرض. وذهب الحنابلة وبعض المالكيّة إلى جواز الجمع للمريض بين الصّلاتين، ويخيّر بين التّقديم والتّأخير، وسواء كان ذلك المرض دوخةً أو حمّى أو غيرهما.
1 - السّفر لغةً: قطع المسافة، وخلاف الحضر " أي الإقامة "، والجمع: أسفار، ورجل سفر، وقوم سفر: ذوو سفر. والفقهاء يقصدون بالسّفر: السّفر الّذي تتغيّر به الأحكام الشّرعيّة وهو: أن يخرج الإنسان من وطنه قاصداً مكاناً يستغرق المسير إليه مسافةً مقدّرةً عندهم، على اختلاف بينهم في هذا التّقدير كما سيأتي بيانها. والمراد بالقصد: الإرادة المقارنة لما عزم عليه، فلو طاف الإنسان جميع العالم بلا قصد الوصول إلى مكان معيّن فلا يصير مسافراً. ولو أنّه قصد السّفر، ولم يقترن قصده بالخروج فعلاً فلا يصير مسافراً كذلك ؛ لأنّ المعتبر في حقّ تغيير الأحكام الشّرعيّة هو السّفر الّذي اجتمع فيه القصد والفعل.
2 - يختصّ السّفر بأحكام تتعلّق به، وتتغيّر بوجوده، ومن أهمّها: قصر الصّلاة الرّباعيّة، وإباحة الفطر للصّائم، وامتداد مدّة المسح على الخفّين إلى ثلاثة أيّام، والجمع بين الظّهر والعصر، والجمع بين المغرب والعشاء، وحرمة السّفر على الحرّة بغير محرم، وولاية الأبعد. ويقتصر هذا البحث على ما يتّصل بالسّفر من حيث قصر الصّلاة. أمّا ما يختصّ بغيرها من أحكام شرعيّة ففيها تفصيل كثير ينظر في مصطلح (سفر، صوم، المسح على الخفّين، أوقات الصّلاة، نكاح، وولاية).
ينقسم الوطن إلى: وطن أصليّ، ووطن إقامة، ووطن سكنى.
3 - هو المكان الّذي يستقرّ فيه الإنسان بأهله، سواء أكان موطن ولادته أم بلدةً أخرى، اتّخذها داراً وتوطّن بها مع أهله وولده، ولا يقصد الارتحال عنها، بل التّعيّش بها. ويأخذ حكم الوطن: المكان الّذي تأهّل به، أي تزوّج به، ولا يحتاج الوطن الأصليّ إلى نيّة الإقامة. لكن المالكيّة يشترطون: أن تكون الزّوجة مدخولاً بها غير ناشز. وممّا تقدّم يتبيّن: أنّ الوطن الأصليّ يتحقّق عند أغلب الفقهاء بالإقامة الدّائمة على نيّة التّأبيد، سواء أكان في مكان ولادته أم في مكان آخر، ويلحق بذلك مكان الزّوجة. 4 - والوطن الأصليّ يجوز أن يكون واحداً أو أكثر، وذلك مثل أن يكون له أهل ودار في بلدتين أو أكثر، ولم يكن من نيّة أهله الخروج منها، وإن كان ينتقل من أهل إلى أهل في السّنة، حتّى إنّه لو خرج مسافراً من بلدة فيها أهله، ودخل بلدةً أخرى فيها أهله، فإنّه يصير مقيمًا من غير نيّة الإقامة.
5 - الوطن الأصليّ ينتقض بمثله لا غير، وهو أن يتوطّن الإنسان في بلدة أخرى وينقل الأهل إليها من بلدته مضرباً عن الوطن الأوّل، ورافضاً سكناه، فإنّ الوطن الأوّل يخرج بذلك عن أن يكون وطناً أصليّاً له، حتّى لو دخل فيه مسافراً لا تصير صلاته أربعاً. والأصل فيه: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والمهاجرين من أصحابه - رضي الله عنهم - كانوا من أهل مكّة، وكان لهم بها أوطان أصليّة، ثمّ لمّا هاجروا وتوطّنوا بالمدينة، وجعلوها داراً لأنفسهم انتقض وطنهم الأصليّ بمكّة، حتّى كانوا إذا أتوا مكّة يصلّون صلاة المسافرين. ولذلك «قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين صلّى بهم: أتمّوا يا أهل مكّة صلاتكم فإنّا قوم سفر». ولا ينتقض الوطن الأصليّ بوطن الإقامة، ولا بوطن السّكنى ؛ لأنّهما دونه، والشّيء لا ينسخ بما هو دونه، وكذا لا ينتقض بنيّة السّفر والخروج من وطنه حتّى يصير مقيماً بالعودة من غير نيّة الإقامة.
6 - هو المكان الّذي يقصد الإنسان أن يقيم به مدّةً قاطعةً لحكم السّفر فأكثر على نيّة أن يسافر بعد ذلك، مع اختلاف بين المذاهب في مقدار هذه المدّة كما سيأتي بيانها. أمّا شرائطه: فقد ذكر الكرخيّ في جامعه عن محمّد روايتين: الرّواية الأولى: إنّما يصير الوطن وطن إقامة بشريطتين: إحداهما: أن يتقدّمه سفر. والثّانية: أن يكون بين وطنه الأصليّ وبين هذا الموضع " الّذي توطّن فيه بنيّة إقامة هذه المدّة " مسافة القصر. وبدون هذين الشّرطين لا يصير وطن إقامة، وإن نوى الإقامة مدّةً قاطعةً للسّفر في مكان صالح للإقامة، حتّى إنّ الرّجل المقيم لو خرج من مصره إلى قرية لا لقصد السّفر، ونوى أن يتوطّن بها المدّة القاطعة للسّفر فلا تصير تلك القرية وطن إقامة له وإن كان بينهما مسافة القصر ؛ لانعدام تقدّم السّفر. وكذا إذا قصد مسيرة سفر، وخرج حتّى وصل إلى قرية بينها وبين وطنه الأصليّ أقلّ من مسافة القصر، ونوى أن يقيم بها المدّة القاطعة للسّفر لا تصير تلك القرية وطن إقامة له. والرّواية الثّانية - وهي رواية ابن سماعة عن محمّد بن الحسن - أنّه يصير مقيماً من غير هاتين الشّريطتين كما هو ظاهر الرّواية. والمالكيّة يشترطون مسافة القصر إن كانت نيّة الإقامة في ابتداء السّير، فإن كانت في أثنائه فلا تشترط المسافة على المعتمد.
7 - وطن الإقامة ينتقض بالوطن الأصليّ ؛ لأنّه فوقه، وبوطن الإقامة ؛ لأنّه مثله والشّيء يجوز أن ينسخ بمثله، وينتقض بالسّفر - أيضاً - لأنّ توطّنه في هذا المقام ليس للقرار، ولكن لحاجة، فإذا سافر منه يستدلّ به على قضاء حاجته، فصار معرضاً عن التّوطّن به، فصار ناقضاً له، ولا ينتقض وطن الإقامة بوطن السّكنى ؛ لأنّه دونه فلا ينسخه.
8 - هو المكان الّذي يقصد الإنسان المقام به أقلّ من المدّة القاطعة للسّفر. وشرطه: نيّة عدم الإقامة المدّة القاطعة للسّفر، ولذلك يعتبر مسافراً بهذه النّيّة وإن طال مقامه ؛ لما روي «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك عشرين ليلةً يقصر الصّلاة»، وروي عن سعد بن أبي وقّاص - رضي الله عنه - أنّه أقام بقرية من قرى نيسابور شهرين وكان يقصر الصّلاة. إلاّ أنّ هذا الحكم ليس متّفقاً عليه بين المذاهب على تفصيل سيأتي بيانه.
9 - وطن السّكنى ينتقض بالوطن الأصليّ وبوطن الإقامة ؛ لأنّهما فوقه، وينتقض بوطن السّكنى ؛ لأنّه مثله، وينتقض بالسّفر ؛ لأنّ توطّنه في هذا المقام ليس للقرار، ولكن لحاجة، فإذا سافر منه يستدلّ به على انقضاء حاجته، فصار معرضاً عن التّوطّن به، فصار ناقضاً له. هذا، والفقيه الجليل أبو أحمد العياضيّ قسّم الوطن إلى قسمين: أحدهما: وطن قرار والآخر: مستعار.
10 - يصير المقيم مسافراً إذا تحقّقت الشّرائط الآتية: الشّريطة الأولى: الخروج من المقام، أي موطن إقامته، وهو أن يجاوز عمران بلدته ويفارق بيوتها، ويدخل في ذلك ما يعدّ منه عرفاً كالأبنية المتّصلة، والبساتين المسكونة، والمزارع، والأسوار، وذلك على تفصيل بين المذاهب سيأتي بيانه. ولا بدّ من اقتران النّيّة بالفعل ؛ لأنّ السّفر الشّرعيّ لا بدّ فيه من نيّة السّفر كما تقدّم، ولا تعتبر النّيّة إلاّ إذا كانت مقارنةً للفعل، وهو الخروج ؛ لأنّ مجرّد قصد الشّيء من غير اقتران بالفعل يسمّى عزماً، ولا يسمّى نيّةً، وفعل السّفر لا يتحقّق إلاّ بعد الخروج من المصر، فما لم يخرج لا يتحقّق قران النّيّة بالفعل، فلا يصير مسافراً. الشّريطة الثّانية: نيّة مسافة السّفر، فلكي يصير المقيم مسافراً لا بدّ أن ينوي سير مسافة السّفر الشّرعيّ ؛ لأنّ السّير قد يكون سفراً وقد لا يكون، فالإنسان قد يخرج من موطن إقامته إلى موضع لإصلاح ضيعة، ثمّ تبدو له حاجة أخرى إلى المجاوزة عنه إلى موضع آخر، وليس بينهما مدّة سفر، ثمّ يتجاوز ذلك إلى مكان آخر، وهكذا إلى أن يقطع مسافةً بعيدةً أكثر من مدّة السّفر، ولذلك لا بدّ من نيّة مدّة السّفر للتّمييز. وعلى هذا قالوا: أمير خرج مع جيشه في طلب العدوّ، ولم يعلم أين يدركهم فإنّهم يصلّون صلاة المقيم في الذّهاب، وإن طالت المدّة، وكذلك لو طاف الدّنيا من غير قصد إلى قطع المسافة فلا يعدّ مسافراً، ولا يترخّص.
11 - أقلّ هذه المسافة مقدّر عند عامّة العلماء، ولكنّهم اختلفوا في التّقدير. فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة واللّيث والأوزاعيّ: إلى أنّ أقلّ مدّة السّفر مسيرة يومين معتدلين بلا ليلة، أو مسيرة ليلتين معتدلتين بلا يوم، أو مسيرة يوم وليلة. وذلك ؛ لأنّهم قدّروا السّفر بالأميال، واعتبروا ذلك ثمانيةً وأربعين ميلاً، وذلك أربعة برد، وتقدّر بسير يومين معتدلين. واستدلّوا بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يا أهل مكّة: لا تقصروا الصّلاة في أدنى من أربعة برد، من مكّة إلى عسفان» ولأنّ ابن عمر وابن عبّاس كانا يقصران ويفطران في أربعة برد فما فوقها، ولا يعرف لهما مخالف، وأسنده البيهقيّ بسند صحيح، مثل هذا لا يكون إلاّ عن توقيف، وعلّقه البخاريّ بصيغة الجزم، وقال الأثرم: قيل لأبي عبد اللّه: في كم تقصر الصّلاة؟ قال: في أربعة برد، قيل له: مسيرة يوم تامّ؟ قال: لا، أربعة برد: ستّة عشر فرسخاً: مسيرة يومين. وقد قدّره ابن عبّاس من عسفان إلى مكّة مستدلّاً بالحديث السّابق. وذهب الحنفيّة إلى أنّ أقلّ مسافة السّفر مسيرة ثلاثة أيّام ولياليها، لما روي عن عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - «أنّه سئل عن المسح على الخفّين فقال: جعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيّام ولياليهنّ للمسافر ويوماً وليلةً للمقيم»، فقد جعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم لكلّ مسافر أن يمسح ثلاثة أيّام ولياليها، ولن يتصوّر أن يمسح المسافر ثلاثة أيّام ولياليها، ومدّة السّفر أقلّ من هذه المدّة. وكذلك قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا يحلّ لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تسافر مسيرة ثلاث ليال إلاّ ومعها محرم»، فلو لم تكن المدّة مقدّرةً بالثّلاث لم يكن لتخصيص الثّلاث معنى. وقد استحبّ ذلك الإمام الشّافعيّ للخروج من الخلاف. والعبرة بالسّير هو السّير الوسط، وهو سير الإبل المثقلة بالأحمال، ومشي الأقدام على ما يعتاد من ذلك، مع ما يتخلّله من نزول واستراحة وأكل وصلاة. ويحترز بالسّير الوسط عن السّير الأسرع، كسير الفرس والبريد، وعن السّير الأبطأ، كسير البقر يجرّ العجلة، فاعتبر الوسط ؛ لأنّه الغالب. والسّير في البحر يراعى فيه اعتدال الرّياح ؛ لأنّه هو الوسط، وهو ألاّ تكون الرّياح غالبةً ولا ساكنةً، ويعتبر في الجبل ما يليق به، فينظر كم يسير في مثل هذا مسافة القصر فيجعل أصلاً، وذلك معلوم عند النّاس فيرجع إليهم عند الاشتباه.
12 - إذا كان لمكان واحد طريقان مختلفان، أحدهما يقطعه في ثلاثة أيّام، والآخر يمكن أن يصل إليه في يوم واحد، فقد قال أبو حنيفة: يقصر لو سلك الطّريق الأقرب ؛ لأنّه يعتبر مسافراً، هكذا ذكر الكاسانيّ في البدائع، وجاء في العناية: إذا كان لموضع طريقان: أحدهما في الماء يقطع بثلاثة أيّام ولياليها إذا كانت الرّيح متوسّطةً، والطّريق الثّاني في البرّ يقطع بيوم أو يومين، فلا يعتبر أحدهما بالآخر، فإن ذهب إلى طريق الماء قصر، وإن ذهب إلى طريق البرّ أتمّ، ولو انعكس انعكس الحكم. وقال المالكيّة: لا يقصر عادل عن طريق قصير، وهو ما دون مسافة القصر إلى طريق طويل فيه المسافة بدون عذر، بل لمجرّد قصد القصر، أو لا قصد له، فإن عدل لعذر أو لأمر، ولو مباحاً فيما يظهر قصر. وبمثل ذلك يقول الشّافعيّة. والحنابلة يجيزون القصر لمن سلك الطّريق الأبعد مع وجود الأقرب، ولو لغير عذر.
13 - معلوم ممّا سبق: أنّ الفقهاء حدّدوا أقلّ المسافة الّتي تشترط لقصر الصّلاة، وأنّهم اعتبروا السّير الوسط " مشي الأقدام وسير الإبل " هو الأساس في التّقدير، والمقصود - هنا- هو معرفة الحكم إذا استعملت وسائل السّفر الحديثة كالقطار والطّائرة، حيث الرّاحة وقصر المدّة. وقد تحدّث الفقهاء في ذلك: فعند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - كما يتّضح من أقوالهم - أنّ المسافر لو قطع مسافة السّفر المحدّدة في زمن أقلّ ؛ لاستعماله وسائل أسرع فإنّه يقصر الصّلاة ؛ لأنّه يصدق عليه أنّه سافر مسافة القصر. فقد قال الدّسوقيّ: من كان يقطع المسافة بسفره قصر، ولو كان يقطعها في لحظة بطيران ونحوه. وقال النّوويّ: يقصر المسافر، ولو قطع المسافة في ساعة. وقال الخطيب الشّربينيّ: يقصر المسافر، لو قطع المسافة في بعض يوم كما لو قطعها على فرس جواد. وقال البهوتيّ: يقصر المسافر الرّباعيّة إلى ركعتين إجماعاً، ولو قطع المسافة في ساعة واحدة ؛ لأنّه صدق عليه أنّه يسافر أربعة برد " مسافة القصر ". وقد اختلف النّقل عند الحنفيّة، فنقل الكاسانيّ في بدائعه ما روي عن أبي حنيفة: من أنّ المسافر لو سار إلى موضع في يوم أو يومين، وأنّه بسير الإبل، والمشي المعتاد ثلاثة أيّام فإنّه يقصر، اعتباراً للسّير المعتاد. وهذا القول يوافق المذاهب السّابقة ؛ لأنّ أبا حنيفة اعتبر أنّ العلّة هي قطع المسافة. لكن الكمال بن الهمام: اعتبر أنّ العلّة لقصر الصّلاة في السّفر هي المشقّة الّتي تلحق بالمسافر، ولذلك يذكر: أنّ المسافر لو قطع المسافة في ساعة فإنّه لا يقصر الصّلاة، وإن كان يصدق عليه أنّه قطع مسافة ثلاثة أيّام بسير الإبل ؛ لانتفاء مظنّة المشقّة، وهي العلّة.
14 - المعتبر في نيّة السّفر الشّرعيّ نيّة الأصل دون التّابع، فمن كان سفره تابعاً لغيره فإنّه يصير مسافراً بنيّة ذلك الغير، وذلك كالزّوجة التّابعة لزوجها ؛ فإنّها تصير مسافرةً بنيّة زوجها، وكذلك من لزمه طاعة غيره كالسّلطان وأمير الجيش، فإنّه يصير مسافراً بنيّة من لزمته طاعته ؛ لأنّ حكم التّبع حكم الأصل. أمّا الغريم الّذي يلازمه صاحب الدّين، فإن كان مليئاً، فالنّيّة له ؛ لأنّه يمكنه قضاء الدّين، والخروج من يده، وإن كان الغريم مفلساً، فالنّيّة لصاحب الدّين ؛ لأنّه لا يمكنه الخروج من يده، فكان تابعاً له. هذا مذهب الحنفيّة والحنابلة. ويقول الشّافعيّة: لو تبعت الزّوجة زوجها، أو الجنديّ قائده في السّفر، ولا يعرف كلّ واحد منهم مقصده فلا قصر لهم ؛ لأنّ الشّرط - وهو قصد موضع معيّن - لم يتحقّق، وهذا قبل بلوغهم مسافة القصر، فإن قطعوها قصروا. فلو نوت الزّوجة دون زوجها، أو الجنديّ دون قائده مسافة القصر، أو جهلا الحال قصر الجنديّ غير المثبت في الدّيوان، دون الزّوجة ؛ لأنّ الجنديّ حينئذ ليس تحت يد الأمير وقهره، بخلاف الزّوجة، فنيّتها كالعدم. أمّا الجنديّ المثبت في الدّيوان فلا يقصر ؛ لأنّه تحت يد الأمير، ومثله الجيش، إذ لو قيل: بأنّه ليس تحت يد الأمير وقهره كالآحاد لعظم الفساد.
15 - القصر معناه: أن تصير الصّلاة الرّباعيّة ركعتين في السّفر، سواء في حالة الخوف، أو في حالة الأمن. وقد شرع القصر في السّنة الرّابعة من الهجرة. ومشروعيّة القصر ثابتة بالكتاب والسّنّة والإجماع. أمّا الكتاب فقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ}. وأمّا السّنّة: فما ورد عن يعلى بن أميّة قال: «قلت لعمر بن الخطّاب: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ}، فقد أمن النّاس. قال: عجبت ممّا عجبت منه، فسألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: صدقة تصدّق اللّه بها عليكم فاقبلوا صدقته». وقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: «صحبت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فكان لا يزيد في السّفر على ركعتين»، وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك. وغير ذلك من الأحاديث والآثار. فالآية الكريمة دلّت على مشروعيّة القصر في حالة الخوف، ودلّت الأحاديث على مشروعيّته في حالتي الخوف والأمن. وقد أجمعت الأمّة على مشروعيّة القصر.
16 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة: إلى أنّ القصر جائز تخفيفاً على المسافر ؛ لما يلحقه من مشقّة السّفر غالباً، واستدلّوا بالآية الكريمة: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} فقد علّق القصر على الخوف ؛ لأنّ غالب أسفار النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم تخل منه. ونفي الجناح في الآية يدلّ على جواز القصر، لا على وجوبه. واستدلّوا كذلك بحديث يعلى بن أميّة السّابق: «صدقة تصدّق اللّه بها عليكم». وذهب الحنفيّة: إلى أنّ فرض المسافر من ذوات الأربع ركعتان لا غير، فليس للمسافر عندهم أن يتمّ الصّلاة أربعاً ؛ لقول عائشة - رضي الله عنها -: «فرضت الصّلاة ركعتين ركعتين، فأقرّت صلاة السّفر، وزيد في صلاة الحضر». ولا يعلم ذلك إلاّ توقيفاً، وقول ابن عبّاس - رضي الله عنهما -: «إنّ اللّه عزّ جلّ فرض الصّلاة على لسان نبيّكم صلى الله عليه وسلم على المسافر ركعتين وعلى المقيم أربعاً، وفي الخوف ركعةً». والرّاجح المشهور عند المالكيّة: أنّ القصر سنّة مؤكّدة ؛ فإنّه لم يصحّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه أتمّ الصّلاة، بل المنقول عنه القصر في كلّ أسفاره، وما كان هذا شأنه فهو سنّة مؤكّدة. وهناك أقوال أخرى في المذهب فقيل: إنّه فرض، وقيل: إنّه مستحبّ، وقيل: إنّه مباح.
17 - قال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة: إنّ الأصل هو الإتمام وأنّ القصر رخصة، واستدلّوا بحديث مسلم السّابق: «صدقة تصدّق اللّه بها عليكم». إلاّ أنّ المشهور من مذهب الشّافعيّة: أنّ القصر أفضل من الإتمام، إذا بلغ السّفر ثلاثة أيّام، اقتداءً برسول اللّه صلى الله عليه وسلم ؛ وخروجاً من خلاف من أوجبه، كأبي حنيفة، إلاّ الملّاح الّذي يسافر في البحر بأهله، ومن لا يزال مسافراً بلا وطن، فالإتمام لهما أفضل خروجاً من خلاف من أوجبه عليهما، كالإمام أحمد. ومقابل المشهور: إنّ الإتمام أفضل مطلقاً، لأنّه الأصل، والأكثر عملاً، أمّا إذا لم يبلغ السّفر ثلاثة أيّام فالإتمام أفضل لأنّه الأصل. وعند الحنابلة: القصر أفضل من الإتمام نصّاً، لمداومة النّبيّ صلى الله عليه وسلم والخلفاء عليه. لكن إن أتمّ من يباح له القصر لم يكره. وعند الحنفيّة: القصر هو الأصل في الصّلاة ؛ إذ الصّلاة في الأصل فرضت ركعتين، في حقّ المقيم والمسافر جميعاً، لحديث عائشة المتقدّم ذكره، ثمّ زيدت ركعتان في حقّ المقيم. وأقرّت الرّكعتان في حقّ المسافر كما كانتا في الأصل، فالرّكعتان من ذوات الأربع في حقّ المسافر ليستا قصراً حقيقةً، بل هو تمام فرض المسافر، والإكمال ليس رخصةً في حقّه، بل هو إساءة ومخالفة للسّنّة. والقصر عزيمة ؛ لما روي عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - أنّه قال: «ما سافر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلاّ صلّى ركعتين إلاّ المغرب» ولو كان القصر رخصةً والإكمال هو العزيمة لما ترك العزيمة إلاّ أحياناً ؛ إذ العزيمة أفضل، وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لا يختار من الأعمال إلاّ أفضلها، وكان لا يترك الأفضل إلاّ مرّةً أو مرّتين تعليمًا للرّخصة في حقّ الأمّة، ولقد «قصر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقال لأهل مكّة: أتمّوا صلاتكم فإنّا قوم سفر» فلو جاز الأربع لما اقتصر على ركعتين.
يقصر المسافر الصّلاة الرّباعيّة إلى ركعتين إذا توفّرت الشّرائط الآتية:
18 - وهي شريطة عند جميع الفقهاء كما سبق. والمعتبر فيها: نيّة الأصل دون التّابع على ما سبق بيانه، وأن تكون من بالغ عند الحنفيّة، ولذلك لو خرج الصّبيّ قاصداً السّفر وسار مسافةً حتّى بقي إلى مقصده أقلّ من مدّة السّفر فبلغ حينذاك، فإنّه لا يقصر الصّلاة، بل يصلّي أربعاً ؛ لأنّ قصده السّفر لم يصحّ ابتداءً، وحين بلغ لم يبق إلى مقصده مدّة السّفر فلا يصير مسافراً عندهم. ويشترط عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في السّفر الّذي تقصر فيه الصّلاة: ألاّ يكون لمعصية، فلا يقصر عاص بسفره، كآبق وقاطع طريق ؛ لأنّ الرّخص لا يجوز أن تتعلّق بالمعاصي ؛ وجواز الرّخص في سفر المعصية إعانة على المعصية وهذا لا يجوز. فإن قصر العاصي بسفره فعند المالكيّة لا يعيد الصّلاة على الأصوب، وإن أثم بعصيانه. ومن أنشأ السّفر عاصياً به، ثمّ تاب في أثنائه، فعند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة: يقصر إن كان ما بقي من سفر مسافة القصر، ولو سافر سفراً مباحاً ثمّ قصد بسفره المعصية قبل تمام سفره، انقطع التّرخّص، فلا يقصر عند المالكيّة، وهو الأصحّ للشّافعيّة. وذهب الحنابلة - وهو القول الثّاني للشّافعيّة - إلى أنّه يقصر. ولم يشترط الحنفيّة أن يكون السّفر مباحًا، بل أجازوا القصر في سفر المعصية - أيضاً -، فإنّه يستوي في المقدار المفروض على المسافر من الصّلاة سفر الطّاعة من الحجّ والجهاد وطلب العلم، وسفر المباح كسفر التّجارة ونحوه، وسفر المعصية كقطع الطّريق والبغي ؛ لأنّ الدّلائل الّتي وردت لا توجب الفصل بين مسافر ومسافر. ومن هذه الدّلائل قوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ...}، وقوله تعالى: {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} وقول عليّ - رضي الله عنه -: «جعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيّام ولياليهنّ للمسافر ويوماً وليلةً للمقيم» من غير فصل بين سفر وسفر، فوجب العمل بعموم النّصوص وإطلاقها.
19 - وهو أن يقصد الإنسان مسيرة مسافة السّفر المقدّرة عند الفقهاء، حتّى إنّه لو طاف الدّنيا من غير قصد مسيرة المسافة المحدّدة لا يجوز له القصر ؛ لأنّه لا يعتبر مسافراً، وقد مرّ بيان ذلك.
20 - فالقصر لا يجوز إلاّ أن يجاوز المسافر محلّ إقامته، وما يتبعه على التّفصيل الّذي سيأتي بيانه. لكن هل يشترط الخروج للسّفر قبل مضيّ وقت يسع الإتمام؟ اختلف الفقهاء في ذلك: يقول الكاسانيّ الحنفيّ: وسواء خرج في أوّل الوقت أو في وسطه أو في آخره، حتّى لو بقي من الوقت مقدار ما يتّسع لأداء ركعتين، فإنّه يقصر في ظاهر قول أصحابنا. وقال إبراهيم النّخعيّ، ومحمّد بن شجاع الثّلجيّ: إنّما يقصر إذا خرج قبل الزّوال، فأمّا إذا خرج بعد الزّوال فإنّه يكمل الظّهر ويقصر العصر. والكلام في ذلك مبنيّ على أنّ الصّلاة هل تجب في أوّل الوقت أو في آخره؟ فعند المحقّقين من الحنفيّة: لا تجب في أوّل الوقت على التّعيين، وإنّما تجب في جزء من الوقت غير معيّن، وإنّما التّعيين إلى المصلّي من حيث الفعل، حتّى إنّه إذا شرع في أوّل الوقت تجب في ذلك الوقت، وكذلك إذا شرع في وسطه أو في آخره. وثمّة أصل آخر، وهو مقدار ما يتعلّق به الوجوب في آخر الوقت، فقال الكرخيّ وأكثر المحقّقين من الحنفيّة: إنّ الوجوب يتعلّق بآخر الوقت بمقدار التّحريمة وهو المختار، وعليه فإنّ الأداء يتغيّر وإن بقي مقدار ما يسع التّحريمة فقط، وقال زفر واختاره القدوريّ: لا يجب إلاّ إذا بقي من الوقت مقدار ما يؤدّي فيه الفرض. وعلى ذلك القول فلا يتغيّر الفرض إلاّ إذا بقي من الوقت ما يمكن فيه الأداء. وعند المالكيّة: تقصر الصّلاة الّتي يسافر في وقتها ولو الضّروريّ، فيقصر الظّهرين قبل الغروب بثلاث ركعات فأكثر ولو أخّرهما عمداً، فإذا لم يبق إلاّ بمقدار ركعتين أو ركعة صلّى العصر فقط سفريّةً. وقال الشّافعيّة: إن سافر وقد بقي من الوقت أقلّ من قدر الصّلاة، فإن قلنا: إنّه مؤدّ لجميع الصّلاة جاز له القصر، وإن قلنا: إنّه مؤدّ لما فعل في الوقت قاض لما فعل بعد الوقت لم يجز له القصر. وقال الحنابلة: إن دخل عليه وقت الصّلاة في الحضر، ثمّ سافر، لزمه أن يتمّ ؛ لوجوبها عليه تامّةً بدخول وقتها.
21 - يشترط للقصر نيّته في التّحريمة، ومثل نيّة القصر ما لو نوى الظّهر مثلاً ركعتين، ولم ينو ترخّصاً، كما قاله الشّافعيّ، ومثل النّيّة - أيضًا - ما لو قال: أؤدّي صلاة السّفر، كما قاله المتولّي من الشّافعيّة، فلو لم ينو ما ذكر، بأن نوى الإتمام أو أطلق أتمّ، وهذا عند الشّافعيّة والحنابلة. أمّا الحنفيّة: فإنّ نيّة السّفر تجعل فرض المسافر ركعتين، وهذا يكفي. وعند المالكيّة: تكفي نيّة القصر في أوّل صلاة يقصرها في السّفر، ولا يلزم تجديدها فيما بعدها من الصّلوات، وقيل: إنّه لا بدّ من نيّة القصر عند كلّ صلاة ولو حكماً. واشترط الشّافعيّة التّحرّز عمّا ينافي نيّة القصر في دوام الصّلاة، وذلك مثل نيّة الإتمام، فلو نوى الإتمام بعد نيّة القصر أتمّ، ولو أحرم قاصراً ثمّ تردّد في أنّه يقصر أم يتمّ؟ أتمّ. أو شكّ في أنّه نوى القصر أم لا؟ أتمّ. وإن تذكّر في الحال أنّه نواه، لأنّه أدّى جزءاً من صلاته حال التّردّد على التّمام، ولو قام القاصر لثالثة عمداً بلا موجب لإتمام، كنِيّته أو نيّة إقامة بطلت صلاته. ونحوهم الحنابلة: فعندهم: إن عزم المسافر في صلاته على ما يلزمه به الإتمام من الإقامة وسفر المعصية لزمه أن يتمّ تغليبًا لكونه الأصل، أو تاب من سفر المعصية في الصّلاة الّتي أحرم بها سفريّةً لزمه أن يتمّ، ولا تنفعه نيّة القصر، وكمن نوى خلف مقيم عالماً بأنّ إمامه مقيم، وأنّه لا يباح له القصر، فلم تنعقد. واشترط الشّافعيّة - أيضاً -: العلم بجواز القصر، فلو قصر جاهلاً به لم تصحّ صلاته ؛ لتلاعبه. وعند الحنفيّة: لو اختار الأربع لا يقع الكلّ فرضاً، بل المفروض ركعتان، والشّطر الثّاني: يقع تطوّعاً، حتّى إنّه لو لم يقعد على رأس الرّكعتين قدر التّشهّد فسدت صلاته ؛ لأنّها القعدة الأخيرة في حقّه، وإذا أتمّ ساهيًا صحّت صلاته، ووجب عليه سجود السّهو، وإن كان عمداً وجلس على رأس الرّكعتين صحّت صلاته وأساء لتأخيره السّلام عن مكانه. ويقول المالكيّة: إن نوى المسافر الإقامة القاطعة لحكم السّفر، وهو في الصّلاة الّتي أحرم بها سفريّةً شفع بأخرى ندباً إن عقد ركعةً وجعلها نافلةً، ولا تجزئ حضريّة إن أتمّها أربعاً؛ لعدم دخوله عليها ولا تجزئ سفريّة ؛ لتغيّر نيّته في أثنائها.
22 - قال الفقهاء: يبدأ المسافر القصر إذا فارق بيوت المصر، فحينئذ يصلّي ركعتين. وأصله ما روى أنس - رضي الله عنه - قال: «صلّيت الظّهر مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعاً، وصلّيت معه العصر بذي الحليفة ركعتين»، وما روي عن عليّ - رضي الله عنه -: أنّه لمّا خرج من البصرة يريد الكوفة صلّى الظّهر أربعاً ثمّ نظر إلى خصّ أمامه وقال: لو جاوزنا هذا الخصّ صلّينا ركعتين. والمعتبر مفارقة البيوت من الجانب الّذي يخرج منه، وإن كان في غيره من الجوانب بيوت. ويدخل في بيوت المصر المباني المحيطة به، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقصر في سفره إلاّ بعد الخروج من المدينة. والقريتان المتدانيتان المتّصل بناء إحداهما بالأخرى، أو الّتي يرتفق أهل إحداهما بالأخرى فهما كالقرية الواحدة، وإلاّ فلكلّ قرية حكم نفسها يقصر إذا جاوز بيوتها والأبنية الّتي في طرفها. وساكن الخيام يقصر إذا فارق خيام قومه ومرافقها، كملعب الصّبيان، والبساتين المسكونة المتّصلة بالبلد، ولو حكماً لا يقصر إلاّ إذا فارقها إن سافر من ناحيتها، أو من غير ناحيتها، وكان محاذياً لها عند المالكيّة. ويقصر سكّان القصور والبساتين وأهل العزب إذا فارقوا ما نسبوا إليه بما يعدّ مفارقةً عرفاً. والبلدة الّتي لها سور، لا يقصر إلاّ إذا جاوزه وإن تعدّد، كما قال الشّافعيّة. وقالوا أيضاً: يعتبر مجاوزة عرض الوادي إن سافر في عرضه، والهبوط إن كان في ربوة، والصّعود إن كان في وهدة. وهذا إن سافر في البرّ، ويعتبر في سفر البحر المتّصل ساحله بالبلد جري السّفينة أو الزّورق، فيقصر بمجرّد تحرّكها، أمّا إذا كان البحر بعيداً عن المدينة فالعبرة بمجاوزة سور المدينة.
23 - الصّلوات الّتي تقصر هي: الصّلاة الرّباعيّة، وهي: الظّهر، والعصر، والعشاء إجماعاً، ولا قصر في الفجر والمغرب لحديث عائشة - رضي الله عنها -: «فرض صلاة السّفر والحضر ركعتين ركعتين. فلمّا أقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالمدينة زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان وتركت صلاة الفجر لطول القراءة وصلاة المغرب لأنّها وتر النّهار» ولأنّ القصر هو: سقوط شطر الصّلاة، وبعد سقوط الشّطر من الفجر والمغرب لا يبقى نصف مشروع، بخلاف الصّلاة الرّباعيّة فإنّها هي الّتي تقصر، وذلك في جميع المذاهب. ومقدار القصر: أن تصير الرّباعيّة ركعتين لا غير. ولا قصر في السّنن عند الحنفيّة. ولا قصر في المنذورة عند الشّافعيّة.
24 - يقول الحنفيّة: يصحّ اقتداء المسافر بالمقيم في الوقت، وينقلب فرض المسافر أربعاً عند عامّة الفقهاء من الحنفيّة لأنّه لمّا اقتدى به صار تبعاً له ؛ لأنّ متابعته واجبة عليه ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به فلا تختلفوا عليه» وأداء الصّلاة في الوقت ممّا يحتمل التّغيير، وهو التّبعيّة، فيتغيّر فرضه أربعاً، فصار صلاة المقتدي مثل صلاة الإمام، فصحّ اقتداؤه به. ولا يصحّ اقتداء المسافر بالمقيم خارج الوقت عند الحنفيّة ؛ لأنّ الصّلاة خارج الوقت من باب القضاء، وهو خلف عن الأداء، والأداء لم يتغيّر فلا يتغيّر القضاء بالاقتداء بالمقيم، فبقيت صلاته ركعتين وصارت القعدة الأولى للتّشهّد فرضاً في حقّه، وهي نفل في حقّ الإمام فيكون هذا اقتداء المفترض بالمتنفّل في حقّ القعدة، وكما لا يجوز اقتداء المفترض بالمتنفّل في جميع الصّلاة، فلا يجوز في ركن منها. ولو أنّ مقيماً صلّى ركعتين بقراءة، فلمّا قام إلى الثّالثة جاء مسافر واقتدى به بعد خروج الوقت لا يصحّ ؛ لما سبق بيانه من أنّ فرض المسافر تقرّر ركعتين بخروج الوقت، والقراءة فرض عليه في الرّكعتين، وهي نفل في حقّ المقيم في الأخيرتين، فيكون اقتداء المفترض بالمتنفّل في حقّ القراءة. وأمّا اقتداء المقيم بالمسافر فيصحّ في الوقت وخارج الوقت ؛ لأنّ صلاة المسافر في الحالتين واحدة، والقعدة فرض في حقّه نفل في حقّ المقتدي، واقتداء المتنفّل بالمفترض جائز في كلّ الصّلاة فكذا في بعضها، وإذا سلّم الإمام على رأس الرّكعتين لا يسلّم المقيم ؛ لأنّه قد بقي عليه شطر الصّلاة، فلو سلّم فسدت صلاته، ولكنّه يقوم ويتمّها أربعاً ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «أتمّوا يا أهل مكّة صلاتكم، فإنّا قوم سفر»، ويقول الإمام المسافر ذلك للمقيمين اقتداءً بالرّسول عليه السلام. وعند المالكيّة: يجوز اقتداء المسافر بالمقيم مع الكراهة، ويلزمه الإتمام ولو نوى القصر ; لمتابعة الإمام، وهذا إذا أدرك معه ركعةً، واختلف في الإعادة، لمخالفة سنّة القصر. ويجوز - أيضاً - اقتداء المقيم بالمسافر مع الكراهة، ويسلّم المسافر، ويتمّ المقيم. ويجوز كذلك عند الشّافعيّة والحنابلة اقتداء المسافر بالمقيم، ويلزمه الإتمام. كما يجوز اقتداء المقيم بالمسافر، وفرضا الإتمام. وذهب طاوس والشّعبيّ وتميم بن حذلم: إلى أنّ المسافر إن أدرك مع الإمام المقيم ركعتين أجزأتا عنه. وذهب الحسن والزّهريّ والنّخعيّ وقتادة: إلى أنّه إن أدرك معه ركعةً فأكثر أتمّ، وإن أدرك معه أقلّ من ركعة قصر.
25 - قال الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في القديم: من فاتته صلاة في السّفر قضاها في الحضر ركعتين، ومن فاتته صلاة في الحضر قضاها في السّفر أربعاً ؛ لأنّ القضاء بحسب الأداء. والمعتبر في ذلك آخر الوقت ؛ لأنّه المعتبر في السّببيّة عند عدم الأداء في الوقت. وقال زفر: إذا سافر وقد بقي من الوقت قدر ما يمكنه أن يصلّي فيه صلاة السّفر يقضي صلاة السّفر، وإن كان الباقي دونه صلّى صلاة المقيم. وذهب الشّافعيّة في الجديد - وهو الأصحّ - إلى أنّه لا يجوز له القصر ؛ لأنّه تخفيف تعلّق بعذر فزال بزوال العذر. وإن فاتته في السّفر فقضاها في السّفر ففيه قولان: أحدهما: لا يقصر ؛ لأنّها صلاة ردّت من أربع إلى ركعتين، فكان من شرطها الوقت. والثّاني: له أن يقصر - وهو الأصحّ - لأنّه تخفيف تعلّق بعذر، والعذر باق، فكان التّخفيف باقياً. وإن فاتته في الحضر صلاة، فأراد قضاءها في السّفر لم يجز له القصر ؛ لأنّه ثبت في ذمّته صلاة تامّة فلم يجز له القصر، وقال المزنيّ: له أن يقصر. وقال الحنابلة: إذا نسي صلاة حضر فذكرها في السّفر، أو نسي صلاة سفر فذكرها في الحضر صلّى في الحالتين صلاة حضر. نصّ عليه أحمد في رواية أبي داود والأثرم ؛ لأنّ القصر رخصة من رخص السّفر فيبطل بزواله.
26 - المسافر إذا صحّ سفره يظلّ على حكم السّفر، ولا يتغيّر هذا الحكم إلاّ أن ينوي الإقامة، أو يدخل وطنه، وحينئذ تزول حالة السّفر، ويصبح مقيماً تنطبق عليه أحكام المقيم. وللإقامة شرائط هي:
27 - نيّة الإقامة أمر لا بدّ منه عند الحنفيّة، حتّى لو دخل مصراً ومكث فيه شهراً أو أكثر لانتظار قافلة، أو لحاجة أخرى يقول: أخرج اليوم أو غداً، ولم ينو الإقامة، فإنّه لا يصير مقيماً، وذلك لإجماع الصّحابة - رضي الله عنهم - فإنّه روي عن سعد بن أبي وقّاص - رضي الله عنه - أنّه: أقام بقرية من قرى نيسابور شهرين وكان يقصر الصّلاة. وعن ابن عمر رضي الله عنهما -: أنّه أقام بأذربيجان شهراً وكان يقصر الصّلاة. وعن علقمة: أنّه أقام بخوارزم سنتين وكان يقصر. وروي عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - أنّه قال: «غزوت مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح، فأقام بمكّة ثماني عشرة ليلةً، لا يصلّي إلاّ ركعتين، ويقول: يا أهل البلد: صلّوا أربعاً فإنّا قوم سفر». أمّا مدّة الإقامة المعتبرة: فأقلّها خمسة عشرة يوماً ؛ لما روي عن ابن عبّاس وابن عمر رضي الله عنهم - أنّهما قالا: إذا دخلت بلدةً وأنت مسافر وفي عزمك أن تقيم بها خمسة عشر يوماً فأكمل الصّلاة، وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصر، قال الكاسانيّ: وهذا باب لا يوصل إليه بالاجتهاد ؛ لأنّه من جملة المقادير، ولا يظنّ بهما التّكلّم جزافاً، فالظّاهر أنّهما قالاه سماعاً من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. وعند المالكيّة: لا بدّ من النّيّة، وأقلّ مدّة الإقامة أربعة أيّام صحاح مع وجوب عشرين صلاةً في مدّة الإقامة، ولا يحتسب من الأيّام يوم الدّخول إن دخل بعد طلوع الفجر، ولا يوم الخروج إن خرج في أثنائه. ولا بدّ من اجتماع الأمرين: الأربعة الأيّام والعشرين صلاةً. واعتبر سحنون: العشرين صلاةً فقط. ثمّ إنّ نيّة الإقامة إمّا أن تكون في ابتداء السّير، وإمّا أن تكون في أثنائه، فإن كانت في ابتداء السّير، وكانت المسافة بين النّيّة وبين محلّ الإقامة مسافة قصر، قصر الصّلاة حتّى يدخل محلّ الإقامة بالفعل، وإلاّ أتمّ من حين النّيّة، أمّا إن كانت النّيّة في أثناء السّفر فإنّه يقصر حتّى يدخل محلّ الإقامة بالفعل، ولو كانت المسافة بينهما دون مسافة القصر على المعتمد، ويستثنى من نيّة الإقامة نيّة العسكر بمحلّ خوف، فإنّها لا تقطع حكم السّفر. وإذا أقام بمحلّ في أثناء سفره دون أن ينوي الإقامة به، فإنّ إقامته به لا تمنع القصر ولو أقام مدّةً طويلةً إلاّ أنّه إذا علم أنّه سيقيم أربعة أيّام في مكان عادةً، فإنّ ذلك يقطع حكم السّفر ولو لم ينو الإقامة ؛ لأنّ العلم بالإقامة كالنّيّة، بخلاف الشّكّ فإنّه لا يقطع حكم السّفر. ويقول الشّافعيّة: لو نوى المسافر المستقلّ، ولو محاربًا إقامة أربعة أيّام تامّةً بلياليها، أو نوى الإقامة وأطلق بموضع عينه، انقطع سفره بوصوله ذلك الموضع سواء أكان مقصده أم في طريقه، أو نوى بموضع وصل إليه إقامة أربعة أيّام انقطع سفره بالنّيّة مع مكثه. ولو أقام أربعة أيّام بلا نيّة انقطع سفره بتمامها ؛ لأنّ اللّه تعالى أباح القصر بشرط الضّرب في الأرض، والمقيم والعازم على الإقامة غير ضارب في الأرض. والسّنّة بيّنت أنّ ما دون الأربع لا يقطع السّفر، ففي الصّحيحين: «يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً»، وكان يحرم على المهاجرين الإقامة بمكّة ومساكنة الكفّار، فالتّرخّص في الثّلاث يدلّ على بقاء حكم السّفر، بخلاف الأربعة، وألحق بإقامة الأربعة: نيّة إقامتها. ولا يحسب من الأربعة يوما دخوله وخروجه إذا دخل نهاراً على الصّحيح، والثّاني يحسبان بالتّلفيق، فلو دخل زوال السّبت ليخرج زوال الأربعاء أتمّ، وقبله قصر، فإن دخل ليلاً لم تحسب بقيّة اللّيلة ويحسب الغد. واختار السّبكيّ من الشّافعيّة: أنّ الرّخصة لا تتعلّق بعدد الأيّام بل بعدد الصّلوات، فيترخّص بإقامة مدّة يصلّي فيها إحدى وعشرين صلاةً مكتوبةً ؛ لأنّه المحقّق من فعله صلى الله عليه وسلم حين نزل بالأبطح. ولو أقام ببلد بنيّة أن يرحل إذا حصلت حاجة يتوقّعها كلّ وقت، أو حبسه الرّيح بموضع في البحر قصر ثمانية عشر يوماً غير يومي الدّخول والخروج ؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أقامها بمكّة عام الفتح لحرب هوازن يقصر الصّلاة. وقيل: يقصر أربعة أيّام غير يومي الدّخول والخروج، وفي قول: يقصر أبداً ؛ لأنّ الظّاهر أنّه لو زادت حاجة النّبيّ صلى الله عليه وسلم على الثّمانية عشر لقصر في الزّائد. ولو علم المسافر بقاء حاجته مدّةً طويلةً فلا قصر له على المذهب ؛ لأنّه ساكن مطمئنّ بعيد عن هيئة المسافرين. وعند الحنابلة: لو نوى إقامة أكثر من عشرين صلاةً أتمّ لحديث جابر وابن عبّاس - رضي الله عنهم - «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قدم مكّة صبيحة رابعة ذي الحجّة فأقام بها الرّابع والخامس والسّادس والسّابع، وصلّى الصّبح في اليوم الثّاني، ثمّ خرج إلى منًى، وكان يقصر الصّلاة في هذه الأيّام، وقد عزم على إقامتها». ولو نوى المسافر إقامةً مطلقةً بأن لم يحدّها بزمن معيّن في بلدة أتمّ ؛ لزوال السّفر المبيح للقصر بنيّة الإقامة، ولو شكّ في نيّته، هل نوى إقامة ما يمنع القصر أو لا؟ أتمّ ؛ لأنّه الأصل. وإن أقام المسافر لقضاء حاجة يرجو نجاحها أو جهاد عدوّ بلا نيّة إقامة تقطع حكم السّفر، ولا يعلم قضاء الحاجة قبل المدّة ولو ظنّاً، أو حبس ظلماً، أو حبسه مطر قصر أبداً ؛ لأنّ «النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصّلاة». فإن علم أو ظنّ أنّها لا تنقضي في أربعة أيّام لزمه الإتمام، كما لو نوى إقامة أكثر من أربعة أيّام. وإن نوى إقامةً بشرط، كأن يقول: إن لقيت فلانًا في هذا البلد أقمت فيه وإلاّ فلا، فإن لم يلقه في البلد فله حكم السّفر ؛ لعدم الشّرط الّذي علّق الإقامة عليه ؛ وإن لقيه به صار مقيماً ؛ لاستصحابه حكم نيّة الإقامة إن لم يكن فسخ نيّته الأولى للإقامة قبل لقائه أو حال لقائه، وإن فسخ النّيّة بعد لقائه فهو كمسافر نوى الإقامة، فليس له أن يقصر في موضع إقامته ؛ لأنّه محلّ ثبت له فيه حكم الإقامة، فأشبه وطنه.
28 - صرّح الحنفيّة بأنّ المدّة الّتي يقيمها المسافر ويصير بها مقيماً، يشترط فيها أن تقضى في مكان واحد أو ما يشبه المكان الواحد ؛ لأنّ الإقامة قرار والانتقال يضادّه. فإذا نوى المسافر الإقامة المدّة القاطعة للسّفر في موضعين، فإن كانا مصراً واحداً أو قريةً واحدةً صار مقيماً ؛ لأنّهما متّحدان حكماً، وإن كانا مصرين نحو مكّة ومنىً، أو الكوفة والحيرة، أو إن كانا قريتين، أو أحدهما مصراً والآخر قريةً فلا يصير مقيماً، ولا تزول حالة السّفر ؛ لأنّهما مكانان متباينان حقيقةً وحكماً. فإن نوى المسافر أن يقيم باللّيالي في أحد الموضعين ويخرج بالنّهار إلى الموضع الآخر، فإن دخل أوّلاً الموضع الّذي نوى المقام فيه باللّيل يصير مقيماً، ثمّ بالخروج إلى الموضع الآخر لا يصير مسافراً ؛ لأنّ موضع إقامة الرّجل حيث يبيت فيه.
29 - يقول الحنفيّة: لا بدّ أن يكون المكان الّذي يقيم فيه المسافر صالحاً للإقامة، والمكان الصّالح للإقامة: هو موضع اللّبث والقرار في العادة، نحو الأمصار والقرى، وأمّا المفازة والجزيرة والسّفينة فليست موضع الإقامة، حتّى لو نوى الإقامة في هذه المواضع خمسة عشر يوماً لا يصير مقيماً، كذا روي عن أبي حنيفة، وروي عن أبي يوسف في الأعراب والأكراد والتّركمان إذا نزلوا بخيامهم في موضع، ونووا الإقامة خمسة عشر يوماً صاروا مقيمين، وعلى هذا: إذا نوى المسافر الإقامة فيه خمسة عشر يوماً يصير مقيماً كما في القرية، وفي رواية أخرى عن أبي يوسف: أنّهم لا يصيرون بذلك مقيمين. والحاصل أنّ هناك قولاً واحداً عند أبي حنيفة وهو: لا يصير مقيماً في المفازة ولو كان ثمّة قوم وطنوا ذلك المكان بالخيام والفساطيط. وعن أبي يوسف روايتان. والصّحيح قول أبي حنيفة ؛ لأنّ موضع الإقامة موضع القرار، والمفازة ليست موضع القرار في الأصل فكانت النّيّة لغواً. ولو حاصر المسلمون مدينةً من مدائن أهل الحرب، ووطّنوا أنفسهم على إقامة خمسة عشر يوماً لم تصحّ نيّة الإقامة ويقصرون، وكذا إذا نزلوا المدينة وحاصروا أهلها في الحصن. وقال أبو يوسف: إن كانوا في الأخبية والفساطيط خارج البلدة فكذلك، وإن كانوا في الأبنية صحّت نيّتهم. وقال زفر في الفصلين جميعاً: إن كانت الشّوكة والغلبة للمسلمين صحّت نيّتهم، وإن كان للعدوّ لم تصحّ. أمّا المالكيّة والشّافعيّة فلا يشترطون أن يكون المكان صالحاً للإقامة، فلو نوى المسافر الإقامة في مكان، ولو كان غير صالح للإقامة صحّت نيّته، وامتنع القصر. وعند الحنابلة قولان في اشتراط كون المكان صالحاً للإقامة.
30 - يقول الحنفيّة: العبرة بنيّة الأصل في الإقامة، ويصير التّبع مقيماً بإقامة الأصل كالعبد والمرأة والجيش ونحو ذلك. وإنّما يصير التّبع مقيماً بإقامة الأصل، وتنقلب صلاته أربعاً إذا علم التّبع بنيّة إقامة الأصل. فأمّا إذا لم يعلم فلا، حتّى إذا صلّى التّبع صلاة المسافرين قبل العلم بنيّة إقامة الأصل، فإنّ صلاته جائزة، ولا يجب عليه إعادتها. وقد مرّ بيان حكم التّبعيّة في حالة السّفر، وتفصيل المذاهب في ذلك. والإقامة كالسّفر في التّبعيّة.
31 - إذا دخل المسافر وطنه زال حكم السّفر، وتغيّر فرضه بصيرورته مقيماً، وسواء دخل وطنه للإقامة، أو للاجتياز، أو لقضاء حاجة، أو ألجأته الرّيح إلى دخوله ؛ لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يخرج مسافراً إلى الغزوات، ثمّ يعود إلى المدينة ولا يجدّد نيّة الإقامة ؛ لأنّ وطنه متعيّن للإقامة فلا حاجة إلى التّعيين بالنّيّة. ودخول الوطن الّذي ينتهي به حكم السّفر هو أن يعود إلى المكان الّذي بدأ منه القصر، فإذا قرب من بلده فحضرت الصّلاة فهو مسافر ما لم يدخل، وقد روي: أنّ عليّاً - رضي الله عنه - حين قدم الكوفة من البصرة صلّى صلاة السّفر وهو ينظر إلى أبيات الكوفة. وروي - أيضاً - أنّ ابن عمر - رضي الله عنهما - قال لمسافر: صلّ ركعتين ما لم تدخل منزلك. وإذا دخل وطنه في الوقت وجب الإتمام.
32 - إذا عزم المسافر على العودة إلى وطنه قبل أن يسير مسافة القصر، فإنّه يعتبر مقيمًا من حين عزم على العودة ويصلّي تماماً ؛ لأنّ العزم على العودة إلى الوطن قصد ترك السّفر بمنزلة نيّة الإقامة، واشترط الشّافعيّة مع ذلك: أن ينوي وهو مستقلّ ماكث، أمّا لو نوى وهو سائر فلا يقصر حتّى يدخل وطنه. وإن كان بين المكان الّذي عزم فيه على العودة وبين الوطن مدّة سفر قصر، فلا يصير مقيماً ؛ لأنّه بالعزم على العود قصد ترك السّفر إلى جهة، وقصد السّفر إلى جهة أخرى، فلم يكمل العزم على العود إلى السّفر لوقوع التّعارض، فبقي مسافراً كما كان إلى أن يدخل وطنه.
33 - المراد بالجمع: هو أن يجمع المصلّي بين فريضتين في وقت إحداهما، جمع تقديم أو جمع تأخير. والصّلاة الّتي يجوز فيها الجمع هي: الظّهر مع العصر، والمغرب مع العشاء. والجمع بين فريضتين جائز بإجماع الفقهاء. إلاّ أنّهم اختلفوا في مسوّغات الجمع: فعند الحنفيّة يجمع بين الظّهر والعصر في وقت الظّهر بعرفة، وبين المغرب والعشاء في وقت العشاء بمزدلفة، فمسوّغ الجمع عندهم هو الحجّ فقط، ولا يجوز عندهم الجمع لأيّ عذر آخر، كالسّفر والمطر. وعند المالكيّة للجمع ستّة أسباب: السّفر، والمطر، والوحل مع الظّلمة، والمرض، وبعرفة، ومزدلفة. وزاد الشّافعيّة على ما ذكره المالكيّة: عدم إدراك العدوّ. وزاد الحنابلة كذلك: الرّيح الشّديدة. على أنّ هناك بعد ذلك شرائط بالنّسبة لهذه المسوّغات تختلف باختلاف المذاهب مع تفصيل كثير، وذلك مثل من اشترط في السّفر ضرباً معيّناً، كقول مالك: لا يجمع المسافر إلاّ أن يجدّ به السّير، ومنهم من اشترط سفر القربة كالحجّ والغزو، ومنهم من منع الجمع بسبب المطر نهاراً وأجازه ليلاً، ومنهم من أجازه بسبب المطر ليلاً ونهاراً. وتفصيل ذلك في مصطلح: (جمع الصّلوات).
|